قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

التنوّع المرجعي .. تكامل أدوار
الشيخ حسن البلوشي
يحتضن التاريخ بين دفتيه العديد من تجارب النهضة التي قفزت بالبشرية من مرحلة تعيسة إلى أخرى مزدهرة، كما أنه يحتوي العديد من تجارب التخلف التي رمت بالبشرية في أنفاق الظلام. ومن الغريب أن أحد العناصر المشترك بين تجارب النهضة والتخلف هو "التنوع"؛ بمعنى أن التنوع الاجتماعي وتكامله كان أحد أهم العناصر المساهمة في نهضة الأمم، كما أن التنوع الاجتماعي وتناحره كان هو الآخر أحد أهم عناصر التخلف. هذه المفارقة جعلت العديد من المفكرين وفلاسفة التاريخ يتوقفون متسائلين: ما هو الفارق بين التنوع "الناهض" والتنوع "المتخلف"؟ لكن الاجابة على هذا السؤال لا يمكن أن تتوفر ما لم نتوقف قليلاً عند مسألة "الاختلاف"، والتي تقودنا في نهاية المطاف إلى واقعنا الاجتماعي الحالي.
من المنظور الديني يحدثنا القرآن الكريم أن من آيات الله ـ سبحانه وتعالى ـ الإختلاف التكويني بين البشر (وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ في‏ ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمين)، بل هي حقيقة تمتد إلى كل الموجودات في عالم الطبيعة، فيكفي أن ننظر إلى أصناف النباتات والحشرات والطيور والحيوانات والأحجار، فهي صارخة بهذه حقيقة الاختلاف. أما الحقيقة الأخرى التي يحدثنا بها القرآن الكريم فهي حقيقة الافتقار والحاجة، فالله ـ تبارك وتعالى ـ هو الوحيد الغني المطلق وبقية خلقه محتاجون إليه، ومحتاج كل منهم إلى الآخر. فالكون بما يحويه من طاقات يحتاج بعضها إلى بعض، وعالم الحيوان يحتاج كل صنف فيه إلى الآخر، وكذا الأمر في عالم النبات، وكلهم مجتمعون محتاجون إلى بعضهم البعض لاستكمال دورة الحياة. هاتان الحقيقتان (الاختلاف ـ الافتقار) تقودانا إلى سنّة التكامل في الخلق بين بعضها البعض على المستوى التكويني الطبيعي، وعلى المستوى الاجتماعي، فالحياة الطبيعية لا تتكامل إلا بتبادل أدوار عناصرها. كما أن الحياة الاجتماعية وأي عملية نهضة لا يمكن أن تتحقق وتستمر إلا بتكامل أدوار عناصرها. مما يقودنا إلى تشخيص "التنوع الناهض" عن "التنوع المتخلف" فالأول يكامل الأدوار في حين أن الثاني تناقض بينها.
ومن الملفت أن الفارق المهم في الحياة الاجتماعية هو أنها "فعلٌ اختياري" تتحكم فيه الإرادة والاختيار البشري، مما يجعلها عرضة "للتنوع المتخلف" أو "التنوع الناهض" في حين أن الحياة التكوينية مسيرة بيد الخالق القاهر. من هنا نتساءل: كيف يمكن للتنوع المرجعي أن يكون من نوع "التنوع الناهض" الذي يوفر فرص العمل المشترك بين أبناء مجتمع الايمان والولاء، كحلقة من حلقات هويات المجتمع؟. وأغلب الظن أن هذا الأمر يتطلب بالدرجة الأولى تأسيسَ أرضيةٍ ثقافيةٍ تمهد للعمل المشترك، وجوهر هذه الثقافة هو الإيمان بالتكامل بين المرجعيات، وذلك لأن سنة الله في الكون اقتضت الافتقار بين الخلق. وباستحضار تاريخ أتباع أهل البيت (ع) نجد أن لحظات النهضة كانت بتكامل الأدوار بين مرجعياتها ضمن الظروف الاجتماعية والسياسية التي تملي على كل مرجعية دوراً معيناً. فمنهم من يتصدى للشأن السياسي والاجتماعي، وآخر يتركز جهده على البناء العلمي للحوزة، وغيره يخوض عباب التحدي الثقافي والعقائدي المعاصر. . وهكذا. بل إننا نجد أن النهضة الحسينية ما كانت إلا حلقة في سلسلة تكامل أدوار الأئمة (ع) في بناء الأمة، فالإمام الحسن (ع) يصالح، والحسين (ع) يثور، وزين العابدين (ع) يبشر ويقود الاصلاح الأخلاقي. . وهكذا بقية الأئمة (ع) يمارسون أدوارهم ضمن الظروف والمتطلبات. وأكثر من ذلك أن نفس النهضة الحسينية ما كانت لتكون لولا تبادل الأدوار بين الأصحاب والهاشميين، وبين زينب (ع) والحسين (ع).