العنوان والتاريخ في المرثية الحسينية
|
*علي حسين يوسف
تُعد القصيدة وحدة بنائية، أو بنية تتضافر فيها مجموعة من العناصر على ابراز الطابع الهيكلي لها على وفق خطوات من تلك العناصر والذي عرّفته نازك الملائكة بأنه: (الاسلوب الذي يختاره الشاعر لعرض الموضوع)، حيث انه يمثل الصورة الخارجية او الشكلية للقصيدة، وهو ايضا يتوفر على أجزاء مكونة له - كأي بناء آخر -. ومن البديهي ان إضاءة أي جزء من هذه الاجزاء ستصب حتما في فهم مجموع الاجزاء الأخرى، وما يتضمنه ذلك المجموع من قيم موضوعية وفنية، مما يؤدي الى كشف العلاقة البنيوية بين تلك الاجزاء.
هذه العلاقة التي كانت مدار خلاف كبير بين النقاد في مدى تحقيقها للوحدة الموضوعية في القصيدة العربية قد تبدو واضحة في مراثي الامام الحسين عليه السلام، إذ تنتظم كل اجزاء المرثية في خيط واحد من الحزن الذي يلف المرثية من البداية حتى نهايتها، وان بدا الشاعر متغزلا او ذاكرا لاحبته وأيام شبابه الامر الذي يمكن القول معه ان الوحدة الموضوعية في مراثي الامام الحسين عليه السلام ربما كانت اكثر وضوحا لارتكازها على أساس نفسي قد لا نجد ما يماثله في القصائد الاخرى.
ومما يعزز ما تقدم قوله، شيوع المراثي الحسينية الطويلة وغياب المقطوعات في العصور المتأخرة، بوصف المرثية الطويلة تمثل وحدة موضوعية تستوعب احزان الشاعر وان تباينت اسباب ذلك الحزن في الظاهر. فمن المؤكد ان بناء المرثية واختيار شكل دون آخر، لابد ان يستند الى موضوعية تتعلق بالموروث الادبي بقدر استناده الى الاسس الذاتية المتمثلة بموهبة الشاعر وقدرته على الابداع. فاذا كان الشعر استعمالا خاصا للغة يفصح عن ذات الشاعر، فان هذا لابد ان ينسجم مع الموروث الذي مثل جزءاً مهما من ثقافة الشعراء العراقيين، مما أدى الى بقاء بصمات التراث اللغوي واضحة. لذا فأن مراثي الامام الحسين عليه السلام كانت صدى لهذين العاملين مع ملاحظة غلبة الطابع التراثي عند الشعراء المقلّدين وبروز الملامح التجديدة عند الشعراء الذين تأثروا بالثقافات الجديدة.
ولعل من أهم هذه الملامح مسألة عنونة الدواوين والقصائد وتأريخها ونظراً لاهميتها الفنية والعضوية، فقد أولاها النقاد أهمية قصوى وهي من مستجدات المرثية الحسينية فلم يكن معتادا بين الشعراء قبل القرن العشرين ان يضعوا عناوين لدواوينهم او قصائدهم جرياً على منهج القدماء، فقد كانت القصيدة حينما يراد الاشارة اليها تذكر بالمناسبة التي ارتبطت بها او الموضوع الذي قيلت فيه، أو تسمى بحروف الروي الذي بنيت عليه او تعرف بنسبتها الى مجموعة قصائد معروفة، كأن يقال (معلّقة زهير) نسبة الى المعلقات وقد لا يكون للشاعر سوى قصيدة واحدة عندئذ لايحتاج الى قرينة اخرى لتعريفها مثل اصحاب الواحدة و ربما كان للشاعر قصائد عدة لكنه عُرف بواحدة منها.
وفي العصر الحديث ظهرت فكرة العناوين واصبح العنوان جزءاً مهما في دلالة القصيدة وأحد العناصر الفنية الابداعية. وتنحصر وظيفته في عدة نقاط: هي التعيين والوصف والايحاء والاغراء، فيشكل جزءاً مهما من بنية القصيدة ويسجل حضورا نصيّا في اغلب قصائد الشعراء.
ويبدو ان أثر الثقافات الجديدة كان له دور في بروز اهمية العنوان عند الشعراء المجددين بدليل ان شعراء القصيدة التقليدية لاتجد صدى في دواوينهم بعكس اهتمامهم بعنونة قصائدهم فشعراء مثل كاظم آل نوح وكاظم سبتي وسيد رضا الهندي ويعقوب الحاج جعفر ومحمد حسن ابو المحاسن وعبد الحسين الحويزي ومهدي الطالقاني وسيد حيدر الحلي وجعفر الحلي وغيرهم لم يعنوا بوضع العناوين لدواوينهم أو لقصائدهم على عكس الشعراء الذين تزودوا من الثقافات الحديثة مثل الجواهري وإبراهيم الوائلي ومحمد صالح بحر العلوم ومظهر أطيمش ومصطفى جمال الدين وحسين آل بحر العلوم وطالب الحيدري وصالح الجعفري وبدر شاكر السياب وغيرهم، فلا تجد قصيدة عند هؤلاء لم ترتبط بعنوان معين والعنوان عند هؤلاء مرتبط ارتباطاً إيحائياً بالموضوع، لذلك فان اغلب عناوين المراثي مستوحاة من واقعة الطف كـ (فاجعة الطف) لمحمد علي اليعقوبي و (يوم عاشوراء) لعباس الملا علي و (شهر الدموع) لمحمد جمال الهاشمي، ومجسدة لما عاناه الامام الحسين عليه السلام في ذلك اليوم مثل: (الدمعة الخرساء) للسياب و (يا ناعي الطف) للجزائري و (الذكريات الدامية) لمظهر اطيمش أو معبرة عن وجهة نظر الشاعر في مأساة الحسين عليه السلام مثل (آمنت بالحسين) للجواهري و (الشعلة الخالدة) لطالب الحيدري و (أشدو للحسين) لمصطفى جمال الدين. وقد حاول طالب الحيدري ان تكون عنوان احدى مراثيه الحسينية مرتبطةً بالبيت الاول وكأنه جزء منه فعنوان المرثية هو (أُمية) والبيت الاول منها:
أولها فاسق وآخرها
لا سقت بالحيا مقابرها
ولعل أروع مثال للمحور الثالث هو قصيدة الجواهري (آمنت بالحسين) فقد أبدع الشاعر كل الابداع باختياره العنوان الذي جاء ملائماً كل الملاءمة مع اجزاء القصيدة حيث انعكست الحالة النفسية في مونولوج داخلي في المرثية بصورة تساؤل وشك في حقائق التاريخ:
وقلت لعل دوي السنين
باصداء حادثك المفجع
وما رتل المخلصون الدعاة
من مرسلين ومن سجّع
يداً في اصطباغ حديث الحسين
بلون اريد له ممتع
أريد الحقيقة في ذاتها
بغير الطبيعة لم تطبع
ان نفس الجواهري في هذه الابيات غير مطمئنة لما يراه الشاعر ويسمعه من الدعاة بشأن قضية الحسين فيذهب به الشك الى الشك فيما عنده من مسلمات متوارثة:
وجاز بي الشك فيما مع الـ
جدود الى الشك فيما معي
لكن شك الشاعر لم يكن سلبياً، بل كان سبيلا الى الوصول الى حقيقة الثورة الحسينية الناصعة فيقول حينما يتجاوز مرحلة الشك:
فاسلم طوعا اليك القياد
واعطاك اذعانة المهطع
فقد حاول الشاعر خلق جو من الاطمئنان الداخلي التي قد تنتقل الى المتلقي لأن النص الادبي المؤثر حين يخرج من حوزة المبدع فأنه يتحول الى ملك مشاع بين المتلقين وقد يشعر المتلقي بما يشعر به المبدع الى درجة من الانصهار في حال من الاتحاد الفني أي تحس نفسك والصورة التي تراها والموسيقى الشعرية وعنوان القصيدة تتماهى، وهذا أهم محور من محاور عنونة القصيدة، اما التحديد الزمني للمراثي فقد تفاوت الشعراء في العناية به فنجد من بين الشعراء المقلدين من التزم بتاريخ ما نظمه من المراثي الحسينية ومنهم من لم يلتفت الى هذه المسألة، لكننا وجدنا حرصا من الشعراء المجددين على العناية بتحديد زمن قصائدهم.
وقد اصبح التاريخ ذا اهمية بالنسبة للشاعر والقارئ الناقد، فهو دليل يمكن من خلاله معرفة التطور الابداعي الذي واكب الشاعر في مسيرته الادبية، ومعرفة العوامل التاريخية التي أثرت في إنتاجه مع ما فيه من فائدة في ربط القصيدة بمرحلتها التاريخية.
*المصادر
ــــ
1ـ الاسس النفسية للابداع الفني ـ في الشعر خاصة ـ مصطفى سويف
2ـ بناء القصيدة في النقد العربي القديم في ضوء النقد الحديث ـ يوسف حسين بكار
3ـ قضايا الشعر المعاصر ـ نازك الملائكة
4ـ أثر التراث في الشعر العراقي الحديث ـ علي حداد
5ـ المراثي الشعرية في عصر صدر الاسلام ـ مقبول علي بشير النعمة
6ـ ديوان الجواهري ج3
|
|