قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الإنصات.. فن يكبح شهوة الكلام
*جواد عبد الوهاب
لن نتعب من الدعوة إلى (حرية الكلام) أو التعبير، مع أننا ندرك تماماً أن الآذان التي تتوجه لها أصواتنا ليست جاهزة دائما للاستقبال، بل في كثير من الأحيان ليست معنية به، فدعونا هذه المرة نكسر القاعدة وندعو إلى (حرية الإنصات)، أو (حق الصمت)، لعلنا نجد فيه المخرج والنهاية لحلقات الفوضى والجدل العقيم الذي ابتلينا به.
أعتقد أننا أصبحنا بحاجة إلى كبح هذه الشهوة (شهوة الكلام)، وأن نحل محلها خاصية (الصمت) أو (الإنصات)، لا باعتبارها فضيلة منسية مطلوب البحث عنها وإيقاظها من جديد فقط، بل ضرورة لكي نشعر بعقولنا، وفريضة أيضاً لإرضاء أنفسنا المتعبة، جراء ثرثرتنا وما يصدر منّا من أخطاء وزلات، خاصة أن الإنصات مهم لأنه يساعد على التعلم واكتساب معلومات جديدة، فالمتحدث يفرغ ما في جعبته أما المنصت فيكتسب معلومات أكثر كلما طال إنصاته.
نقول ذلك، وفي مجتمعنا منطق (الثرثرة) منتصر على منطق (الإنصات)، وقد تغلبت ثقافة (الكلام) بأنواعه وأنماطه على ثقافة (الاستماع) أو الصمت، ويكفي أن تتابع ما يدور في فضاءاتنا السياسية والإعلامية من حوارات لتكتشف بأننا ما زلنا (فقراء) جداً لفقه (الإنصات)، وضحايا لهيمنة اللسان على العقل، ومصابون بهوس غريب يدفعنا لمقاطعة المتحدث وتوبيخه وإصدار الأحكام ضده حتى قبل أن نسمع رأيه.
إن ما يدعونا إلى ممارسة هذه الخاصية هو أن المنصت لا يقل أهمية عن المتحدث فلو لا وجود منصتين لما وجد المتحدثون آذانا صاغية، إلا أن هذه الفضيلة ينظر إليها في مجتمعاتنا على أنها عادة سلبية كأن يبرر أحد ما عدم مشاركته بالنقاش فيقول بنبرة خجولة "دعوني فأنا منصت جيد" وكأنها تهمة اضطر أن يصارح الآخرين بها.
والغريب أن في تراثنا وردت الدعوة للإنصات أكثر من الدعوة إلى الكلام، فقد قيل: (إذا جالست العالم فأنصت، وإذا جالست الجاهل فأنصت، ففي إنصاتك للأول زيادة علم، وللثاني زيادة حلم). وعند تلاوة القرآن مثلا يتوجب على السامعين أن (ينصتوا) ويخشعوا (وإذا قُرء القران فاستمعوا له وأنصتوا). وعندما يقف خطيب الجمعة على المنبر لا يجوز لجمهور المصلين ان يكسروا حاجز (الإنصات) التزاماً بعدم إفساد صلاتهم، وبهذا المعنى - وغيره مما يتكرر من دعوات للامساك عن الكلام غير النافع - يكون الإنصات (عبادة)، أضف لذلك أن فقهاءنا وضعوا (الحياء والصمت) علامتين من علامات اكتمال فقه الفقيه وعلمه.
في تراثنا - ايضاً - ما يشير الى المعنى ذاته، فكلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة كما يقال، وصمت الإنسان دليل على رزانته وحكمته، وإذا كان الكلام من فضه فالسكوت من ذهب، وفي علم الصوفية يخضع (المريد) لتمارين صعبة يتعلم من خلالها (فن) الإنصات والصمت، وهو في الفلسفة حضور للذات والروح واكتشاف للوجود الإنساني، أو - بتعبير الجاحظ - (بلاغة)، حيث السكون والإشارة للمعنى أعلى مراتب (البلاغة).
أخيرا.. إذا تجرأنا وسألنا أنفسنا: لماذا تتكرر زلاتنا وأخطاؤنا، ولماذا يفتقد مجتمعنا إلى قيمة التوافق، ولماذا نحن فاشلون دائما في حواراتنا، ولماذا تتصاعد الخلافات بيننا، وتتصادم خياراتنا؟ لماذا التراجع في الإصلاح السياسي والنهوض الحضاري، ولماذا افتقدنا قيم الاحترام والتفاهم والتعاون؟ والجواب: لأننا نتكلم أكثر مما نسمع، ونسمع أكثر مما ننصت.. لأننا سقطنا في امتحان (الإنصات) ولم يعد (لآذاننا) سوى وظيفة (استراق) السمع.. وحتى هذه للأسف نستخدمها في مزيد من النميمة والثرثرة فقط