التدبر في القرآن الكريم. . خطواته وآلياته – الحلقة الأخيرة
السياق وفهم المقاصد
|
*السيد سجّاد المدرسي
جرى الحديث في العدد السابق عن اهمية الرجوع الى جذور الكلمات للتمكن من معرفة الظلال الحقيقي لها، وان مجرد الرجوع الى القواميس لا يكفي اذ ان اصحابها اعطوا لكل كلمة معنى جامداً لا يرقى الى الجمال الذي تحمله تلك الكلمات.
ومن الامور التي يمكن ان تساعدنا على المعرفة الافضل لمعاني الكلمات واثبات معاني الفاظ وآيات القران الكريم هو السياق، فكل كلمة لا تأتي لوحدها انما تأتي وهي مؤطرة باطار الجملة، وربما الكلمة الواحدة تعطي معاني مختلفة اذا اختلفت الجمل، او بسبب وجود قرائن على مجازية الكلام او ما الى ذلك.
ولذلك فان من الضروري الانتباه الى موقع الكلمة من الجملة لمعرفة معناها بشكل افضل، ونجد ايضاً ان الائمة عليهم السلام يعلموننا هذا المنهج حين يسأل الخليفة الثاني امير المؤمنين عليه السلام عن معنى كلمة (أبّا) في قوله تعالى : "وفاكهة وابّا"، فيجيبه الامام بانه طعام الحيوانات لان الله تعالى يقول في تكملة الايات : "متاعاً لكم ولانعامكم".
يقول المرجع المدرسي عن السياق: والقرآن الحكيم ذلك الكتاب البليغ الذي يناسب بين المفردات في اطار السيـاق بحيث يصعب عليك تبديل لفظـة باخرى دون ان تضـر بتناسب الكلمات.
لذلك يهدينا السياق ذاته الى المعاني الدقيقة للكلمات لأنها وضعت في موقع متناسب جداً مع تلك المعاني، فإذا أردنا ان نعرف بالدقة معنى اللفظ كان علينا مراجعة ما قبلها وما بعدها، لمعرفة ما يتناسب معهما من معنى لهذه الكلمة، فمثلاً لو اردنا ان نكتشف معنى "قصد" في هذه الآية "وَعَلَى اللـه قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ" (سورة النحل /9) لو اردنا ذلك قارنا بين القصد، والجائر، والهداية، فنعرف معنى القصد، لأنه جاء في مقابل الجائر الذي يعني المائل، فالقصد هو المستقيم، والجائر هو الظالم فالقصد هو العادل.
أو إذا أردنا التعرف على معنى (نفش) في هذه الآيـة "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَـانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ" (الانبياء /78) لو اردنا ذلك لم يكن علينا الا قياس كلمة نفشت بالحرث والغنم والحكم، مما نعرف انه اتلاف الحرث، وهكذا.
وبعد السياق يأتي دور الرجوع الى التفاسير المعتبرة الواردة عن اهل بيت العترة عليهم افضل الصلاة والسلام، من بيان المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ وما الى ذلك.
يقول المرجع المدرسي عن تفاسير اهل البيت عليهم السلام للآيات القرانية: ومعرفة تفاسير ائمة الوحي (عليهم السلام) للآية قاطعة في معانيها، بيد ان تفاسير الأئمة عليهم السلام قد تختلف فيما بينها، او تبين تطبيقاً واحداً للآية، وهنا لابد ان نتخذ منها سبيلاً لفهم المعنى العام الذي يحل مشكلة الاختلاف - من جهة- ويعطي الآية تطبيقات اشمل من جهة ثانية، ولذلك يجب ان لا نجمد في النصوص الواردة في تفسير الآيات على انها المعاني الوحيدة التي تحملها، بل نتخذ منها وسيلة لفهم المعنى الأشمل للآية، وندرس كيف ولماذا انطبقت الآية على المورد الذي يعينه التفسير، لنعرف انه هل يمكن تطبيق الآية ايضاً على مورد متشابه ام لا؟
فمثلاً جاء في بعض النصوص التفسيرية أن الآية الكريمة "إِلاَّ مَنْ اُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللـه وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ" (النحل /106) نزلت في حق عمار بن ياسر، حسناً فهل من الممكن تجميد الآية في عمار؟ كلا. بل يجب ان نفكر كيف جاءت الآية تطبيقاً على حالة عمار... أليس لأنه كان قد اكره على الشرك، فأعطاهم بلسانه ما احبوه؟ أوليس ذات الموقف لو تكرر لرجل اليوم وصنع مثل ما صنعه عمار تنطبق عليه.
إن هذا الأسلوب من التفكير يجعل القرآن حياً ابداً، وقد امر به الدين، فجاء في الحديث: (لو ان القرآن كان يذهب بموت من نزل فيهم لذهب القرآن كله، وإنما مثله كمثل الشمس، كل يوم جديد". و بهذا نعرف ضرورة الاستفادة من التفسير الصحيح بالفهم الواعي لحدود تطبيق التفسير لعموم الآية.
|
|