في ذكرى مولدها السعيد
لنبحث عن السعادة الحقيقية في بيت الزهراء "عليها السلام"
|
*علي جواد
ما السبب الذي يجعلنا راضين بالواقع المر الذي تعيشه معظم عوائلنا، حيث العلاقات المتوترة والاجواء المشحونة والثقة المفقودة؟ أهي ظروف الحياة المعقدة التي نعيشها؟ أم طغيان الحالة المادية على عموم الحالة المعنوية من اخلاقيات ومعنويات وعواطف؟
نموذج من صميم المرأة
ربما يقنع البعض نفسه بان هذه الاسباب تجعله يائساً من وجود نموذج آخر وناجح في الحياة، او لنقل من نموذج قادر على اقتحام الواقع السيئ الذي يعيشه ويقلبه رأساً على عقب فيكون صحيحاً ومنطقياً! هذا اليأس نجده للأسف عند الحديث عن سيرة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام، تلك المرأة الشابة التي عاشت حياتها في مرحلة الشباب فقط، ثم فارقت الحياة في ربيع العمر وبعد لم تكمل الثامنة عشرة من عمرها. فما السبب يا ترى في هذه النظرة السلبية؟ هل ان فاطمة تختلف في سائر النساء في تركيبتها (الفسيولوجية)؟ ألم تكن لها مشاعر واحاسيس ورغبات كباقي نساء العالم؟
ان فاطمة بنت محمد رسول الله صلوات الله عليهما، كانت في طفولتها كسائر الفتيات وفي بيتها كسائر النساء، كما هو أبوها النبي الخاتم الذي اراد له الله تعالى ان يكون كسائر البشر، لا ان يكون ملكاً او قدّيساً يتميز عن الناس في مأكله او منامه ومعاشرته للناس. "لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ" (آل عمران /164)، وهذه واحدة من عديد الآيات التي تشير الى هذه الحقيقة الحضارية في الرسالات الالهية.
إذن؛ فاطمة امتداد للنبوة منذ صغرها، (فاطمة أم أبيها)، فما أعظم هذا الهتاف وهذا الوسام. لقد ولدت الزهراء عليها السلام في السنة الخامسة بعد البعثة النبوية حيث كان الاسلام في أوج جهاده ونظاله ضد الشرك والظلم. فتحت عينيها على الحصار الاقتصادي الظالم المعروف في (شعب أبي طالب) حيث شدّ المسلمون الأوائل بقيادة النبي الأكرم حجر المجاعة على بطونهم. فشهدت المواجهة المحتدمة والصمود والتحدي ثم الضغوط العاصفة التي واجهت أباها برحيل عمه وحاميه أبو طالب وبعده بفترة وجيزة أمها خديجة. في اجواء الصمود والتحدي والاستقامة ترعرعت فاطمة وكبرت، وعندما التحقت بأبيها وبالمسلمين في المدينة، كانت فاطمة السيدة الاولى في المجتمع الاسلامي الاول، فالانتصار للحق ومواجهة الباطل والطغيان وتجسيد القيم الفاضلة والالتزام بالاحكام الدينية وغيرها من الالتزامات والمتبنيات، لم يأت لفاطمة سماعاً او من خلال قراءة كتاب – مثلاً- انما عاشت كل ذلك بتفاصيله واندكت به اندكاكاً، ولعل هذا ما يجب في الحقيقة ان يرفع عنّا الغرابة من العفوية والسلاسة في عديد مواقفها الساطعة، من قبيل اهداء الثوب الجميل والجديد لزفافها لامرأة فقيرة، او تقديم طعام الافطار لسائل على الباب، او لتحملها مشاق العمل البيتي دون ان تنطق بكلمة عن ذلك لزوجها امير المؤمنين عليه السلام، وغير ذلك كثير.
ماذا عند فاطمة...؟!
نعم؛ عندما نرى الفتيات والنسوة اليوم يقتدين في تعاملهن مع ازواجهن وابنائهن بالممثلين والممثلات، وبطريقة ادارة البيت وحتى التجميل وغيره من بعض القنوات الفضائية او المواقع الرخيصة، يجدر بنا ان نطرح تساؤلاً مثيراً كهذا، حتى ندرك المسافة التي تفصلنا عن البيت السعيد بكل ما تعنيه الكلمة. أي شيء نريد...؟ نريد الدفء والحنان والتعاون والعفوية والتربية الصحيحة وكل مقومات السعادة في الاسرة التي نعتقد انها تشكل المجتمع الصغير وسط المجتمع الكبير الذي يجب ان يكون نواة الحضارة الكبيرة.
كما الشمس مصدر الدفء والينابيع مصدر المياه العذبة والقلب النظيف ينبوع الحب والحنان والايمان، فان فاطمة جمعت في بيتها كل هذه الينابيع وغيرها مما يمثل القيم الفاضلة والنبيلة في الحياة، لذا كان بيت علي وفاطمة أفضل البيوت في العالم على الاطلاق بتصريح من النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، وفي حديث مرويٍ من مصادر اهل السنة، عندما نزلت الآية الكريمة: "في بيوتٍ أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها إسمه"، فقام رجل وقال: أيّ بيوت هذه فقال النبي: صلى الله عليه وآله: إنها بيوت الأنبياء، فقام رجلٌ آخر وأشار إلى بيت علي وفاطمة صلوات الله عليهما وقال: أهذه منها ؟ قال النبي: (صلى الله عليه وآله): نعم؛ ومن أفضلها... حول هذا الحديث يعلّق سماحة الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (قدس سره) على كلمة (من) التبعيضية، يقول: (ولعل إجابة النبي صلى الله عليه وآله كانت بقدر عقل السائل، ولعلها محيّثة، وإلا من بعض الحيثيات فان بيت علي وفاطمة صلوات الله عليهما هي أفضل البيوت، لأنه البيت الوحيد في العالم الذي ضمّ معصومين، ولذلك يمكن القول إن من هذه الحيثية بيت علي وفاطمة صلوات الله عليهما هو أفضل البيوت على الإطلاق). لكن ما هي معالم هذا البيت السعيد الذي بشّر به النبي الأكرم بيوت المسلمين منذ ذلك الحين والى يوم القيامة؟ في هذا الحيّز المحدود نشير الى عدد من المعالم التي نرجو ونطمح ان تفيدنا في حياتنا:
أولاً: بيت الحب والحنان
اين يكمن الحب في الحياة الزوجية...؟ هل هو اللحظات العاطفية في الغرفة المغلقة؟ أم في الخلوة ليلاً؟ ربما يكون الاثنين صحيحاً، لكننا نبحث عن حب يعيش معنا لحظات حياتنا اليومية، وتكون لوحة جميلة يتطلع اليها الابناء ويستفيدوا منها لمستقبلهم، فهذا هو الانجاز والمكسب العظيم.
دخل أمير المؤمنين (عليه السلام) يوماً كما يدخل أي زوج الى بيته ظهراً ليأخذ قسطاً من الراحة على متكئٍ له. فطلب الامام من زوجته الصديقة طعاماً يأكله، ففاجأته بالقول: لقد مرّ علينا يومين وليس عندنا طعام! فقال لها ولِمَ لم تخبريني؟ قالت: إن أبي نهاني أن أسألك شيئاً، وقال لي: إن جاء بشيءٍ فبها، وإلا فلا تسأليه شيئاً.
في الحقيقة يمكن ان يكون هذا موقفاً عابراً وسريعاً في حياتنا لكن له اثر عظيم في سعادتنا، لنختبر القدرة على عدم المطالبة بالمال لامور ثانوية وكمالية، ولنجرب عدم المقارنة بذلك الرجل الثري او تلك المرأة ذات المهارات والاعمال المتعددة، ونرى النتيجة، ان الشيء الذي نربحه بترك هذه العادة المقيتة، هو الحب والحنان والقرب اكثر بين الزوجين، وليعرف المتزوجون ان هذا الحب سيكبر ويتماسك عندما يعرف احد الزوجين ان الاخر قد ضحى بسكوته وصبره على شحّة معينة او نقص في شيء معين في البيت او غير ذلك، وهذا ما نتعلمه من الدرس الذي قدمته لنا الصديقة الطاهرة مع زوجها وهو امير المؤمنين وسيد المتقين.
ثانياً : بيت لا توتر فيه
إن التوترات في الحياة الأسرية تُعد حالة مألوفة في مجتمعاتنا وللأسف، وهذه الحالة لم تعشعش في حياتنا ونفوسنا إلا بعد ان طردنا الاخلاق والفضيلة من الشباك. فبات الزوج يخاشن زوجته والزوجة تصرخ في وجه زوجها، او الزوج يهجر زوجته والعكس يحصل ايضاً. ينقل عن بعض النسوة في احدى اجتماعاتهن، ان واحدة تحدثت عن يوم سعيد حلّ بها، فسألت صديقاتها عمّا حصل؟ قالت: لقد غادر الزوج البيت في رحلة تستمر عدة أيام وفيها نتنفس الصعداء....!!
ان البيت المفكك ربما يعرض اصحابه الى الاصابة بامراض عديدة، وقد أكد العلماء تأثير الحالة النفسية والمعنوية على الصحة البدنية للانسان، بما يعني ان النزاع والخصام والكراهية هي بالحقيقة بمنزلة الفيروس القاتل والفتاك لعوائلنا. بينما اراد لنا الله تعالى ان يكون البيت (سكن) لنا، وهذا يكون على يد الزوجة الصالحة يعاضدها الزوج الصالح فيحولوا بيتهم الى واحة خضراء ومكاناً للراحة والطمأنينة. وهذا لا يأتي الا من خلال تفهّم كل طرف للآخر، فاذا تتعب الزوجة في البيت فيجب عليها ان تدرك ان زوجها يتعب ربما اكثر منها ويشاطرها الزوج نفس الشعور.
يقول الامام أمير المؤمنين صلوات الله عليه عن الصديقة الطاهرة: (فو الله ما أغضبتها وما أغضبتني). وهذا امر عظيم، فالغضب والعصبية أمر بات من صميم حياتنا، فالاثارة والعصبية على كل صغيرة وكبيرة، بل دائماً تكون على التوافه والامور البسيطة، أما في بيت الزهراء عليها السلام، فنحن امام قسم غليظ وعظيم بان لم يغصب احدهما الاخر طيلة حياتهما الزوجية، وجاء في وصية الصديقة الزهراء قبل رحيلها المؤلم عن دار الدنيا، وهي تخاطب أمير المؤمنين وتشهد له: (ولا خالفتك منذ عاشرتك)، فقال أمير المؤمنين: معاذ الله... أنتِ أبر...). ثم لنلقي نظرة ولو خاطفة على آبائنا في العقود الماضية، لنر كيف انهم عاشوا ستين وسبعين عاماً دون خلافات او نزاعات او تهديد بالانفصال، واكثر من ذلك لنر نتاج أولئك الآباء اليوم، رجال يقودون المجتمع، فمنهم الوزير والتاجر الكبير والمرأة المتعلمة والمثقفة.
ثالثاً: البيت البسيط
لانقصد بالبسيط، الحقير والوضيع – لاسامح الله- فالاسلام يؤكد على (ان من سعادة المرء الدار الوسيعة والزوجة المطيعة والدابة السريعة)، لكن ما يطمح اليه كل واحد منّا من تسيير الامور وعدم التوقف عند مشكلة او مطلب معقد، وكما يعبر عنه الكثير بـ (تمشية الحال)، فهذا هو المهم، بينما النفوس المعقدة والطموج المجنح البعيد عن الواقع هو السبب في دمار حياتنا ومجتمعاتنا، بل في دمار دنيانا وآخرتنا، بينما المطلوب هو البساطة والكفاف في الأكل وفي الشرب وفي الملبس وفي المنام. في احدى محاضراته يقول سماحة الفقيه المقدس الشيرازي (قدس سره): ان علي وفاطمة صلوات الله عليهما لم يتميزا ببساطة البيت، إنما هما لم يكن يمتلكا البيت بالاساس! فالإمام لم يكن يملك بيتاً عندما تزوّج، وكان هناك شخص يُقال له الحارثة – يقول المقدس الشيرازي- أعطى بيت لأمير المؤمنين، ثم بعد فترة من الزمن بنى الامام له بيتاً، أما عن مهر الزواج، وأثاث البيت فله قصة معروفة ولا نخوضه، فهنالك الكثير ممن كتب حول هذه الموضوع.
هناك من يقول: ان الحياة تعقدت وتفرض متطلبات عديدة لم تكن في الزمن الغابر، ويسوق هذا البعض كلامه حتى يبتعد عن الاقتداء بعلي وفاطمة، طبعاً كل انسان حر في قناعاته، لكن ليعلم الجميع، انه كما انه لكل زمان ظروفه ومتطلباته، فان لكل زمان ظروفه النفسية ايضاً، فالبساطة التي عاشها علي وفاطمة لم تكن سمة ذلك العصر ابداً، فكان في ذلك الزمان من ينام على الحرير والريش ويأكل ما لذّ وطاب، ويسكن في أجمل وأفخر البيوت وهكذا، وعندما اختار علي وفاطمة ذلك البيت، لم ينقص من شخصيتهما وسط المجتمع شيء، كما لو يؤثر ذلك على وضعهما النفسي او الصحي، كذلك اليوم، فان غض النظر عن كثير من الامور لن يؤثر على الانسان كثيراً، طبعاً السعي لأن يكون الانسان في احسن حال، فهذا لا بأس به، لكن بشرط ان يخدم الاجواء المعنوية داخل الاسرة ولا يكون على حسابها ابداً، وإلا فان السيارة لن تدخل السعادة الحقيقية الى البيت ولا الجدران الجميلة للغرف المتعددة والظاهر الجميل للبيت وغير ذلك، وهل يمكن للجماد الصامت ان يدغدغ مشاعر الانسان ويهزّ قلبه بالحب والحنان؟!
رابعاً : بيت التعاون
يروي الفقيه المقدس الشيرازي (قدس سره) هذه الرواية: دخل رسول الله صلى الله عليه وآله على علي و فاطمة عليهما السلام ذات يوم، فرأى علياً ينظف العدس، فيما فاطمة صلوات الله عليها بجنب القدر تطبخ الطعام، فقال صلى الله عليه وآله: (إسمع مني يا أبا الحسن، ولا أقول إلا ما أمر ربي... ما من رجل يعين امرأته في بيتها إلا كان له بكل شعرة على بدنه عبادة سنة بصيام نهارها وقيام ليلها وأعطاه الله من الثواب مثل ما أعطاه الصابرين).
لا مجال للتعليق الكثير على هذه الرواية... يكفي ان يجرب الزوج ما قام به الامام علي عليه السلام، ويضع نفسه مكان أمير المؤمنين، وطالما نتحدث ونقرأ ونكتب وحتى ندعو بصوت عالٍ باننا من اتباع علي ومن شيعته، ثم يجد هذا الزوج انه بالحقيقة يختزل زمناً طوله حوالي اربعة عشر قرناً، ولمن يبحث عن آثار الحضارة الاسلامية، فانها تتمثل امامنا في هذا الاختزال. ان خطوة واحدة من الزوج ومن الزوجة نحو البيت السعيد الذي كان يعيشه على وفاطمة صلوات الله عليهما، كفيل بان يفتح امامنا ابواب السعادة في هذه الدنيا وفي الآخرة، لاننا افدنا انفسنا أولاً، ثم كسبنا رضا الله تعالى.
|
|