الإتجاه الرسالي في تفسير من هدى القرآن الكريم .. (القسم الخامس)
الرؤية الرسالية ومخاطر الانزلاق في مهاوي النفاق والتزييف
|
*السيد محمود الموسوي
جرى الحديث في الحلقات الماضية عن ثلاثة منطلقات رسالية في تفسير القرآن الكريم وهي: الايمان بالله والتسليم له، والقيادة والانتماء الى التجمع الرسالي، وفي القسم الخامس من هذه الدراسة نتناول الرؤية السليمة..
المنطلق الرابع: الرؤية السليمة
من أهم المنطلقات التي تؤسس عليها الحركة الرسالية، هي سلامة الفكرة والرؤية السليمة المتمثلة في الحق، ففي الإطار العام لسورة الحديد يحدّد السيد المدرّسي أهم السمات في الحركة الصادقة، اعتماداً على معطيات السياق القرآني للسورة، ويقول: (إن أهم السمات في الحركة الصادقة والتي تعدُّ بيِّنَات على سلامتها هي الآتية:
الأول :الانبعاث باسم الله رب العالمين، أما الانطلاقة الضالة التي تبدأ من ثقافة الشرك والجحود فإنها آية واضحة على خطأ الحركات التي ترتكز عليها، والرسل وحدهم انطلقوا باسم الله وبأمره الذي تلقوه عبر الوحي بعد اختيارهم من قبله تعالى، وحيث ختم الله عهد هذا النوع من الحركات بنبيه محمد (ص) فإن الحركة الصادقة هي التي تكون امتدادا لهم (عليهم السلام) وبزعامة الأوصياء والربانيين والعلماء بالله الأمناء على حلاله وحرامه والأولياء والقادة الرساليين.
الثانية: المنهج الرباني الأصيل، والمتمثل في الرسالات التي أكملها وختمها ربنا بالقرآن الذي حفظه من التحريف، وجعله مهيمنا على الكتب، فإنه المنهج الأصيل والوحيد الذي يجب اتباعه، واتباع هداه وبصائره، أما المناهج القائمة على الجهالة والإفراط واتباع الأهواء فهي لا تصلح وسيلة مناسبة للنجاح، لأنها إن أخرجت الناس من ظلمات فلكي تدخلهم في مثلها، أو أنقذتهم من عبودية فإلى عبودية مثلها أو أسوأ منها.
الثالثة: الأهداف السامية، والتي يلخصها القرآن في العدل، (قيام الناس بالقسط)، وهذا المفهوم واسع يشمل ردم الهوة بين الطبقات الاجتماعية ولايتجسس عليه، إذ هو الالتزام الحق والإنصاف من قبل الإنسان في كل أبعاد حياته وعلاقاته، في علاقته بربه وقيادته، وفي علاقته بنفسه ومجتمعه وفي علاقته بالخليقة والطبيعة من حوله. وإنما يعرف مدى قيامه بالقسط من خلال الميزان (الفطرة، والعقل، والكتاب، والقيادة الرسالية).
والحركة الرسالية هي التي تسعى إلى ذلك بالكلمة الصادقة أو بالقوة الضاربة وكل ذلك بالعدل. التي يجب على الناس تبنِّيها، وإعانتها، والانتماء إلى صفوفها، لأنها تجاهد للحق ومن أجل سعادتهم، ولأنها المحك في نصرتهم لله ولمسيرة الأنبياء والمرسلين).
*مسؤوليات الرسالة بين التحريف والزيف..
إن رسالة الله مسؤولية كبيرة يحملها الإنسان في الحياة، وتتركز عند الأنبياء والصديقين، وعند الذين ينصبون أنفسهم دعاة إلى الدين، وهي -في الوقت ذاته - مسؤولية ثقيلة وذات قيمة كبيرة، لأنها أداة لتوجيه الناس إلى الحياة السعيدة وإلى مقاومة الجبت والطاغوت، ولنا أن نتصور أن قدرة الإنسان في ضبط نفسه عن شهواته متصلة بفهمه الصحيح لرسالة الدين في الحياة، إذ إنها هي التي تحذره من مغبة الاسترسال مع الشهوات وتبين له أن لقمة واحدة يمضغها الإنسان بشهواته، قد تمنعه من الأكل الهنيء طول حياته، وأن ساعة واحدة من الغفلة واللاإرادة، قد تجعل حياته وإلى الأبد جحيما لا يطاق، وأن أية شهوة طائشة، أو جريمة، أو ذنب أو هفوة، توجب عليه الحساب والعقاب الأليم في الآخرة، ومن ثم رسالة الدين تجعل إرادة الإنسان قوية وقادرة على ضبط الشهوات وتوجيه طاقاته نحو الجد.
أما لو جاء رجل دين منحرف، ومن أجل المماشاة مع أصحاب الشهوات والربح عليهم، وجمع أكبر عدد منهم حوله، و برَّر لهم سيئاتهم وهوَّن عليهم أمر العقاب وأخذ ينشر فيهم أفكارا من قبيل أن الله غفور رحيم، أو أن الأنبياء والأولياء يشفعون لك ذنوبك، وانك سوف توفَّق للتوبة وهكذا، فإن النتيجة ستكون خطيرة، إذ إن أداة الضبط تتراخى في النفس وتندفع الشهوات في كل اتجاه. وقد يقدم صاحبها على أكبر الجرائم اعتمادا على تلك التبريرات السخيفة !
إن مجازر الحروب الصليبية ارتكبت بفعل تحريف رسالة الدين، وتحويلها من أداة لضبط الشهوات إلى أداة لتبريرها، بل وتكريسها وإعطائها الشرعية، كما أن العديد من طغاة التأريخ كانوا يستغلون في مجازرهم الرهيبة بعض رجال الدين المحرفّين، الذين يزورون الدين ويسوغون لهم اقتراف الجرائم.
وأولاد اليهود اليوم وفي إطار دولتهم غير الشرعية يقترفون الجرائم باسم الدين، ولكن أي دين ذلك الدين الذي يبرر الجرائم بدل أن يدينها.
هذا عن الجبت.. أما الطاغوت المتمثل في السلطات المستبدة والمستغلة والمستعبدة للبشرية فإن القوة الوحيدة التي تستطيع أن تتحرك ضدها هي قوة الشعب، الذي يجب أن يحافظ على حريته وثرواته ويجاهد ضد مستغليه، ولكن الشعب بحاجة إلى سلاح فكري يساعده في تجميع قواه، وتوحيد طاقاته، وتبرير تضحياته، وذلك السلاح هو الدين، ولكن يشترط ألاَّ يسرق رجال الدين سلاح الشعب منه، ويبيعوه إلى الطواغيت، بثمن بخس دراهم معدودة.
ولنا أن نتصور كم ألف ألف جريمة ترتكب في كل يوم بسبب خيانة رجال الدين لرسالة الدين؟ وكم يستعبد ملايين الناس لهذا السبب؟ وهل لها قيمة تلك الدراهم التي يقبضها هؤلاء الخونة لقاء تلك الجرائم الكبيرة التي يتحملون وزرها؟!
من هنا نجد القرآن شديد مع هؤلاء ويقول: "إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً" فمهما يكون الثمن الذي يقبضه الإنسان لقاء جريمته بحق الشعوب، فهو قليل، والعهد والإيمان سيتحدث عنهما القرآن في الآية (81) من سورة (آل عمران)، "أُوْلَـئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ" إنهم في الآخرة بلا رصيد، بالرغم من بعض مظاهر الطاعة التي عندهم من صلاة وصيام، إذ إنهم يبيعون دينهم في الدنيا، فلا يبقى منه شيء للآخرة، و أولئك هم الأذلون في يوم القيامة، إذ إنهم طلبوا من وراء بيعهم للدين والحصول على بعض الجاه، فجزاهم ربهم بعقاب مناسب حين أذلهم في القيامة (وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وهؤلاء دائماً يزكون أنفسهم، ويجعلونها مقدسة، ومتعالية عن النقد، أي نقد يوجه إليهم يعدّونه نقداً موجهاً إلى الدين، ويكفّرون صاحبه؛ لذلك قال عنهم. (وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) جزاء للذّات البسيطة التي استفادوها ببيعهم الدين.
*الرؤية الرسالية.. اكتشاف المنافقين من عملهم
يقول السيد المرجع المدرسي في تفسيره لهذه الآية: "يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ" (التوبة: 94)، (وهذه الآية تدل على إن المؤمنين الصادقين يتسلحون برؤية رسالية تمكنهم من كشف طبيعة المنافقين، ومن مظاهر هذه الرؤية النظر إلى الفرد من خلال تاريخه الماضي، وأعماله الحالية، وقراراته المستقبلية، دون الإكتفاء فقط بأقواله وتبريراته.
وبما أن المنافق مجتث الجذور، متلون حسب المتغيرات، وأنه لا يريد الإستمرار في خطه مستقبلا لذلك فهو يتستر تحت ستار كثيف من الكلمات الفارغة والأقوال الكاذبة المغلفة بالأيمان ليعوض عن عمله بقوله، وعن تصرفاته المتغيرة بتبريراته الواهية، لذلك فإن كثيراً من البسطاء ينخدعون بأقواله وتبريراته. إنما المؤمن الصادق ينظر إلى عمل المنافق لا إلى قوله، فيتخلص من خطر عظيم هو الانخداع بالمنافق، ذلك الخطر الذي وقعت فيه –ومع الأسف - شعوبنا اليوم بالنسبة إلى الطغاة، والى جيش المنافقين من خدمهم وحشمهم الذين يبررون أبداً تصرفاتهم بشعارات عامة وأنيقة.
ولو تسلحت شعوبنا – يقول المرجع المدرسي- برؤية الإسلام وأخذت تقيم الأشخاص والحكومات بأعمالهم وتاريخ حياتهم وانتظرت حتى ترى إنجازاتهم الحقيقية إذن لرفضت الإستماع للوسائل الإعلامية المنافقة التي تطبل لكل طاغية وتخدع الناس بترديد شعارات فارغة لا أول لها ولا آخر.
وهكذا تجد المنافقين يتقنون صناعة الكلام لأنهم لا يحسنون عملاً، وكلامهم أبدا مؤكد بالأيمان لأنهم لا يريدون تأكيد كلامهم بالأعمال الواقعية).. "سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ" (التوبة: 95)
|
|