العجلة.. تُفقد الحياة طعمها
|
إعداد / إيمان عبد الامير
كان (نادر شاه) الملك الايراني الفاتح، يقوم برحلة استجمام الى شمال ايران عندما اطلق عليه شخص مجهول سهما اصاب به كتفه. وادعى بعض الجنود المرافقين له ان ولده (رضا قلي ميرزا) هو الذي اطلق عليه السهم في محاولة لاغتياله. وقبل ان يتثبت من الموضوع، استعجل باصدار أمره بقلع عيني ولده...! وبالفعل نفذ الجلاوزة أمره، ثم تبين له فيما بعد ان ولده كان بريئا، وان مؤامرة دبرت للايقاع به من قبل الجنود والضباط. وهنا استعجل مرة اخرى فاتخذ أمراً بقلع (مائة كيلو) من عيون جنوده وضباطه! وعندما رأى اولئك انهم سوف يعاقبون بمثل ذلك العقاب الرهيب عاجلوه في الليل بطعنات قاتلة وقضوا عليه.
لقد كان نادر شاه من أنجح ملوك الفرس الفاتحين، فعندما كان يتأنى في قراراته استطاع ان يفتح بلاد الهند، ولكنه عندما استعجل في امره، اتخذ قرارين في الاول أعمى ولده، وفي الثاني قضى على نفسه.
حقا انك للوصول الى القمة لا يمكنك القفز عليها مرة واحدة، بل لا بد من ان تمشي اليه خطوة فخطوة، وذا يتطلب قطع مسافة معينة في كل وقت من غير تأخير، كما يتطلب عدم محاولة تجاوز المسافات. فالعجلة لا تقصر الوقت، كما يظن البعض، بل تقصر العمر، وتكسر الظهر، وتبعد الهدف.
العجلة تُنسي الانسان نفسه
ان الله تعالى خلق الانسان ضعيفاً، ولم يعطه من الطول الا مقدارا بسيطا، فهو لا يستطيع ان يمسك النجوم بيديه ولا ان يغوص البحار برجليه. ولكنه قادر اذا ادى الاعمال حسب خطواتها ان يحقق ما يصبو اليه، وان يصل الى أبعد من النجوم على ان يتبع سنّة الله في ذلك، وهي تقضي بان أطول رحلة تبدأ بخطوة، وليس بالقفز عليها. هذه الحقيقة يبينها لنا ربنا تعالى في كتابه المجيد: "وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً" (سورة الاسراء /37).
ان الاستعجال في الامور، مثل التأخير فيها كلاهما يضر بالعمل، فبين العجلة والتأخير فاصل كبير هو فاصل (التأنّي)، يقول الامام الصادق عليه السلام: (مع التثبت السلامة، ومع العجلة الندامة)، ذلك ان الامور مرهونة بأوقاتها، فاذا استعجلنا فيها خسرناها وهكذا الامر لو تأخرنا عنها.
والبعض يظن انه للنجاح في الاعمال فلابد من الاستعجال فيها، وهذا عين الخطأ، لان المطلوب هو ان تبدأ العمل بالتروي، ثم تعمل بأفضل ماعندك من طاقة ومجهود. يقول الامام علي (ع): (اياك والعجلة بالامور قبل اوانها، او التساقط فيها عند امكانها، او اللجاجة فيها اذا
والعجلة، كما هي تتمثل في نشاطنا وتحركاتنا اليومية، فانها تتمثل ايضاً في حركة لساننا وحديثنا مع هذا وذاك. فاذا تكون عاقبة العجلة في الحركة زلة القدم، فان العجلة في حركة اللسان هي زلته، واذا تكون لزلة القدم آثار على الانسان نفسه، فان لزلة اللسان آثار تشمل الانسان ومحيطه الاجتماعي، وكم من زلات وفلتات لسان قوضت حياة زوجية هانئة، و خربت علاقات ودّية، ولوثت سمعة صديق او قريب.
يقول أمير المؤمنين: (التأني في العقل يؤمن الخطل، والتروي في القول يؤمن الزلل). ومما جاء في كتابه عليه السلام لمالك الاشتر لما ولاه مصر: (ولاتعجلن الى تصديق ساعٍ، فان السعاعي غاشً، وإن تشبّه بالناصحين).
واذا نقرأ كثيراً عن خطورة اللسان وضرورة صونه والحفاظ عليه، فيجب ان نعرف ان العجلة والتسرّع يمثل الصاعق الذي يفجر في الانسان ثورة الغضب والعصبية، عندها يكون العقل والحكمة في غيبوبة تامة، ولن يصحو الانسان إلا على نتائج وعواقب هذا التسرّع، حيث لا فائدة ولا امكانية للتعويض في معظم الحالات.
وقد تسأل كيف تكون العجلة؟ واين تكون؟
والجواب: ان كثيرين يرغبون في الاثراء العاجل، فاذا بهم يصابون بالفقر المعجل! فهناك عشرات الامثلة على الذين غامروا بكل مايملكون واستعجلوا الربح فكانت النتيجة الخسارة الفادحة.
وكذلك الحال في الدراسة وطلب العلم وبناء الحياة الزوجية وحتى في السياسة، بل في كل مجالات الحياة. فكم من رياضيين استعجلوا (القوة) فاستخدموا المنشطات فاصيبوا بالعاهات التي اقعدتهم عن الحركة، فضلاً عن الفضيحة المريعة؟ وكم من شباب يافع في ربيع العمر استعجل اللذة البسيطة وأقام علاقات غير شرعية او أقدم على اعمال منافية للآداب العامة، فكان مصيره الفضيحة والخزي و المحاكم. وكان بامكانه اتباع الطريق الذي سنّه الله ورسوله له وبخطوات متأنية يصل الى حياة زوجية هانئة ولذة مشروعة لا يعتب عليه آحد طوال حياته.
العجلة لمواكبة الزمن الثابت!
ان الحياة لا تنتهي بين عشية وضحاها. والتاريخ لا ينهي صفحاته لا اليوم ولا غداً. ومن فاته النجاح في مجال فقد يحصل عليه في مجال آخر. لكن مشكلة الانسان العجول أنه يفكر دائماً وبشدة بحدود نفسه وكيانه المحدود بالطول والوزن، فيشعر بالضآلة والتأخر والخسران إن لم يسرع ويعجّل في الطلب والكسب، وأن الحياة من حوله تجري بسرعة.
لكن لمجرد ان يرفع الانسان بصره ويفتح بصيرته نحو الآفاق يجد نفسه يبالغ كثيراً في طلب اللذة والشهرة والربح والتفوق، حتى يكاد لا يجد الوقت الكافي للاستفادة من كل ما يكسب ويجني، ليس هو فقط ، بل حتى افراد عائلته، فهو في جري مستمر خلف البيت الاكبر والربح الاكثر والسيارة الاكثر تطوراً و.... غير ذلك كثير، وهو غافل عن أن كل هذا يفنى، وتبقى حقائق الحياة ثابتة لا تتغير لكن لا نلتفت اليها، فلا نفهما ولا نستفيد منها.
ان سكون، وجمال الصباح، وبركة الارض وتضاحك الاطفال، وابتسامة الصديق ودفء العلاقات الزوجية. كلها اشياء باقية. نعم؛ قد (يشتعل الرأس شيباً)، بحكم مرور الزمان وتواتر الاحداث، لكن آصرة الرحم وعاطفة القربى تجعلنا نرى من نحب جميلاً لا يبلى جماله، وهذا هو الحصن المنيع الذي يرد عنا سهام الزمن الفتاك.
واكثر ما نحن فيه من العجلة مردود الى رأي فاسد شاع بيننا في معنى الزمن وقد ألفنا منذ نشأتنا ان نسمع هذه الكلمة: (الزمن يمضي)، والحق انه لا يمضي، بل الزمن باق ونحن الذين نمضي فيه ونعبره، وما آلة (الساعة) الا من ابتكارات الانسان ليقسم الزمن اجزاءً صغيرة، والزمن بدونها باق في مكانه، وسيظل كما هو: الامس، واليوم، والغد. ثم الامس، واليوم والغد وهكذا...
وهنا ملاحظة لابد من اخذها بعين الاعتبار وهي: ان الظروف تختلف بالنسبة الى الاشخاص والمواقع، في قضية الاستعجال، فربما يكون الاسراع مطلوبا في ظرف، والتروي في ظرف آخر. ولربما يكون شخص ما في موقع معين عليه الانتظار وفي موقع اخر لا يجوز له التاخير. فمثلا حينما يكون الشخص في موقع الحكومة، فان التسرع في قضية العقوبة من اكثر الامور المبغوضة، وكذلك الامر بالنسبة الى القضاء واصدار الاحكام. فالمجال هنا هو مجال التروي بلا اشكال. يقول الامام علي (ع): (إياك والتسرع الى العقوبة، فانه ممقتة عند الله). أما في مجال العطاء، فان التروي هو المكروه، لان الطلوب هو الاسراع الى مغفرة الله تعالى، يقول ربنا: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ" (سورة آل عمران /133). ويقول الامام علي (ع): (التؤدة ممدوحة في كل شيء الا في فرص الخير).
|
|