ابن جنّي في دفاعه عن المتنبي
|
منذر الخفاجي
راوية المتنبي، وأول شارح لديوانه قرأه عليه فأجازه ولطالما ناقشه لغوياً وفكرياً ومنطقياً مما جعل المتنبي يقول: (ابن جنّي أعلم بشعري مني!).
كان أبو الفتح عثمان بن جنّي المتوفى في عام 392 هـ من كبار ا لعلماء اللغويين الذي أنجبتهم العربية على مدى تاريخها الطويل وفضلاً عن كونه لغوياً ونحوياً كبيراً فقد كان ناقداً أديباً أيضاً وقد ذكر ياقوت الحموي في معجم الأدباء ج5 ص17 أنه: (كان أبو الفتح عثمان بن جنّي يحضر بحلب عند المتنبي كثيراً ويناظره في شيء من النحو) وكان ابن جنّي صادق الإعجاب بالمتنبي وكان يعده من العلماء والشعراء معاً وأكد ذلك بقوله: (حقاً أقول لقد شاهدته على خلق قلّما تكامل إلا بعالم موفق فأما اختراعه للمعاني وتغلغله فيها واستنقاؤه لها مما لا يدفعه إلا ضد ولا يستحسن معاندته إلا ند وما أحسبني رأيت أحداً يتناكر فضل هذا الرجل ردحاً من الزمان إلا وشاهدته بعد ذلك قد رجع عنه وعاد الى تفضيله)، وفي عبارته الأخيرة اشارة الى استاذه أبي علي الفارسي الذي كان بعيداً عن الا عجاب بالمتنبي وشعره الى أن حببه إليه تلميذه ابن جنّي فشاركه إعجابه به وتقديره له. ويروي ابن جنّي قصص مباحثاته ومناظراته مع المتنبي في شرحه الموسوم بـ(الفسر) حيث يقول: (وأذكر ما كان شجر بيني وبينه من المباحثة وقت قراءتي عليه ديوانه) وفي موضع آخر من كتابه يقول: (ومما استدللت به على فصاحة لفظه وصحة صنعته ودقعة فكره أنني سألته يوماً عن قوله:
وقد عادت الأجفان قرحاً من البكا
وعاد بهاراً في الخدود الشقائق
فقلت: (أقرحى) محال أم (قرحاً) منون جمع (قرحة) فقال: (قرحاً) منون ثم قال: الا ترى بعده: وعاد بهاراً في الخدود الشقائق؟ فكما أن بهاراً جمع بهاره وإنما بينهما الهاء فكذلك (قرحاً) جمع (قرحا) وإنما بينهما الهاء يوفق بذلك بين الكلام) ونستدل من هذه المحاورة على أن نقاشاً دقيقاً جرى بين الرواية والشاعر وإن المتنبي كان عالماً من علماء اللغة فضلاً عن كونه من كبار الشعراء ولم يكتف ابن جنّي بمجرد السؤال والاستفسار بل كان ينقده أحياناً ونرى ذلك في كتابه (الفسر) في عدة مواضع مما حدا بمعاصره الشاعر سعد بن محمد الأزدي الملقب بـ(الوحيد) أن يعلق على آراء ابن جنّي النقدية بعبارات قاسية باعتقاده أنه قد أنصف المتنبي من ابن جنّي الذي ظلمه – على حد قوله – ظلماً عبقرياً في الكثير من آرائه في تفسيره، ومن آراء الشاعر الأزدي التي رد بها على ابن جنّي زعمه أن (نقد الشعر ليس من صناعة النحو) في هذا الرأي الكثير من الغرابة فكيف لا يمكن للنحوي أن يكون ناقداً وقد بدأ النقد العربي في أحضان اللغويين والنحاة ولو لم يكن ابن جنّي ناقداً كبيراً لما استطاع أن ينتقي أجود أبيات المتنبي فيثير إعجاب أبي علي الفارسي وكان قبلها متنكّراً للمتنبي وشعره - كما أسلفنا – وقد بدأ بميميته وأكد على بيته:
وشر ما قنصته راحتي قنص
شهب البزاة سواء فيه والرخم
فلم يزل يستعيده منه الى أن حفظه، وقال: (ما رايت رجلاً في معناه مثله!).
وقد اتبع ابن جنّي الإسلوب النقدي – فضلاً عن اللغوي – في شرح الديوان وقال: (أذم شارد لفظه وأميز ما يداخل قوة الصنعة من نقص في بعضه) ومن يطالع تفسيره يجد الكثير من النظرات الصائبة التي لا يخطفها إلا الناقد الحصيف ويتعرض ابن جنّي جراء هذه الآراء في المتنبي لهجوم عنيف من سعد الأزدي الذي كان سيئ الرأي بأبن جنّي والمتنبي وكان يري المتنبي بسوء الراي بقوله: (ولكن الرجل – اي المتنبي – كان سيئ الرأي قهوراً وسوء رأيه أخرجه من حضرة سيف الدولة وشدد تعرضه لعداوة الناس) كما وصف ابن جنّي بالجهل بقوله: (صاحب الكتاب لا يعرج على هذه الطريق ولا له فيها أثر خف ولا حافر) ويلاحظ كل من له أقل إلمام باللغة أن هذا القول مما لا يليق بالذوق الأدبي الرفيع لشاعر ولا سيما إذا كان في صدد الحديث عن نابغة عصره في اللغة غير أن ابن جنّي يكتشف الداء الذي أصاب الأزدي و غيره وجعلهم يهاجمونه والمتنبي هذا الهجوم العنيف أنه الداء الذي ما خلا منه عصر وقلما ارتفع فوقه انسان وهو الحسد وقد أشار الى هذه الظاهرة في الفصل الاستهلالي من (الفسر) فقال: (ومن ذا الذي يسلم من قالة الناس وحسده؟) ثم يتساءل باستيعاب أعمق: (وهل خلا الصدر الأعظم و الجمهور الأفخم من أهل العلم و ذوي الأبصار والألباب والفهم من هذه المنافقة والمناقضة والتعصب و التحزب على قديم الوقت والى زماننا هذا؟) فم يمضي ابن جنّي ليبين ما كان بين الكثير من الأسماء اللامعة في تاريخ الأدب العربي وبين حاسديهم ومبغضيهم ثم ينتقل الى الحديث عن سبب تهجم معاصريه على المتنبي فلا يجد لذلك سبباً سوى أنه متأخر محدَث فتساءل مستغرباً: (وهل هذا لو عقلوا إلا فضيلة له ومنبهة عليه لأنه حامى زمن يعقم الخواطر ويصدى الأذهان) وما قاله ابن جنّي في عصره وأهل عصره يكاد يصدق على عصرنا وأهل عصرنا فما اشبه الناس بالناس في كل زمان ومكان.
|
|