في ذكرى وفاتها..
سيدة نساء عصرها.. سَكينة بنت الإمام الحسين (ع)
|
*ضياء باقر
الجميع يسمّونها (سُكينة) بضمّ السين، ويستذكرون بمواقفها المحزنة والمقرحة للقلوب، فاجعة الطف واستشهاد أبيها الحسين (عليه السلام)، وهي لم تكن لتحمل هذا الإسم! ويبدو ان هذه العلوية الشجّية، حالها حال سائر أهل بيت النبوة، لحق بها الكثير من الظلم والجفاء بعد وفاتها، من قبل المؤرخين، وجزءٌ من هذا الجفاء يقع علينا نحن الذين طالما نبكي حزناً على مصارع الكرام في كربلاء، ونهتف بالولاء لأهل البيت (عليهم السلام)، فمن سليلة الامامة و ربيبة الحنان والطيب، مروراً بقساوة المشهد والخطب العظيم في كربلاء، وانتهاءً بالمراحل الأخيرة من حياتها (سلام الله عليه) التي لم تحظ مع الأسف الشديد بالبحث والدراسة، فتُركت لأيدي المغرضين من أقلام البلاط والناصبين العداء لأهل البيت(عليهم السلام)، فعاثوا في هذه السيرة فساداً وتزويراً. ولعلنا في هذا الحيّز، نفلح في ذكرى وفاة هذه المرأة العظيمة، بأن نعطي الشيء القليل من حقها.
*من هي سَكينة ؟
إنها السيدة سّكينة – بفتح السين- بنت الامام الحسين بن علي (عليهما السلام)، أمها الرباب بنت امرئ القيس بن عدي الكلبي. كانت ولادتها على رواية في عام 48 للهجرة، واختار لها أبوها الإمام الحسين (عليه السلام) اسم (آمنة) تيمّناً بأسم جدتها أم النبي الأكرم (ص) ثم لقبتها أمها بـ (سَكينة)، وذلك لان نفوس أهلها واسرتها كانت تسكُن إليها من فرط فرحها ومرحها وحيويتها، كما قيل عن سبب ذلك أيضاً ما لاح منها وهي طفلة من إمارات الهدوء والسكينة وقد غلب هذا اللقب على اسمها الحقيقي آمنة.
كانت السيدة سكينة سيدة نساء عصرها وعقيلة قريش كما سمّاها بذلك أبوها الحسين (عليه السلام)، وكانت ذات بيان وفصاحه وذكاء، ولها السيرة الجميلة والكرم الوافر، متصفة بنبل الفعال وجميل الخصال وطيب الشمائل، وكان ذات عبادة وزهد ويقال بانها كلما تقدمت في العمر، كلما كانت تزداد قرباً من الله، وقد كانت مثالاً في التديّن والورع والكمال والعفّة، حيث نشأت (عليها السلام) وتربت في البيت النبوي وفي أحضان والدتها الرباب، وتحت رعاية أبيها الامام الحسين (عليه السلام)، فتشربت مبادئ واخلاقيات الرساليات الداعيات من بيت النبوة محتذية بقدوة النساء بعد الصديقة الزهراء، عمتها زينب (عليهما السلام)، ومما جاء في فضلها ومكانتها ان الامام الحسين عليه السلام كان يحب ابنته سكينة حتى قال بحقها :
لعمرك إنني لأحب داراً تحل بها سكينة والربابُ
أُحبهما وأبذل جُلّ مالي وليس للأمي فيها عِتابُ
ولست لهم وإن عتبوا مُطيعاً حياتي أو يَعليني الترابُ
مظلوميتها..
بما إن السيدة سكينة (سلام الله عليها) عمّرت فترة طويلة بعد استشهاد أبيها الامام الحسين (عليه السلام)، فان الأقلام المأجورة والمدفوعة الثمن والتي تحرص كل الحرص على إخفاء مخازي الأمويين، حرصت في الوقت نفسه على إخراج هذه السيدة العلوية المظلومة من صفتها المقدسة وكونها سليلة الإمامة والنبوة، و وريثة تلك الواقعة المدوية في التاريخ والانسانية، لذا نقرأ اليوم الكثير من التجنّي والتحريف والإدعاءات الباطلة بحق هذه السيدة العلوية، وقد طالت الادعاءات جوانب عديدة من حياتها:
أولاً: في مسألة زواجها: الصحيح في مسألة زواج السيدة سكينة (عليها السلام) هو ما ذكره المرحوم السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم بان علماء النسب والتاريخ يشهدون بأن زوجها الأول هو من ابن الامام الحسن المجتبى عبد الله المعروف بـ(القاسم) ولم تتزوج بغيره، ويذكر السيد المقرم شواهد كثيرة تؤيد رأيه وتفند حديث تعدد ازواجها، والتي تعدّ من ظلامات هذه السيدة الجليلة، حيث ذكر بعض المؤرخين ان أول من تزوجها وهو مصعب بن الزبير بن العوام وبعد هلاك مصعب تزوجها عبد الله بن عثمان بن عبد الله بن حكيم بن حزام بن خويلد، فولدت له عثمان ثم تزوجها الأصبغ بن عبد العزيز بن مروان أخو عمر بن عبد العزيز ثم فارقها قبل الدخول بها. ثم تزوجها عمر بن عثمان بن عفان فأمر سليمان بن عبد الملك بطلاقها ففعل!
ولكن من خلال تتبع البسيط للتأريخ تتضح لنا الحقائق ونعرف مدى التناقض والاضطراب في روايات تعدد ازواج السيدة سكينة حتى ان بعض المؤرخين بعد ان يسهب في ذكر ازواجها يعترف بوجود هذا الاضطراب في الروايات.
ثانياً: في مسألة شعرها:
ومن الافتراءات التي لفّقها المؤرخون الأمويون على هذه السيدة الجليلة ايضاً، مجالستها للشعراء وعقدها لمجالس الطرب والشعر في بيتها، وتغزّل بعض الشعراء بها! بل ذهبوا إلى أكثر من ذلك هتكاً لحرمة سليلة البيت النبوي حيث ذكروا ان لها أساليبها وفنونها في التأنّق في الملبس و... حتى صوّروها بصورة المفتونة بالدنيا المقبلة عليها، حاشاها من كل ذلك! ويذكر أبو الفرج الاصفهاني في (الأغاني) الكثير من هذه الترهات البعيدة كل البعد عما ذكره المؤرخون من صفات هذه السيدة الكريمة وانقطاعها إلى الله سبحانه وتعالى، و يرى بعض المحققين ان ما رواه ابو الفرج الاصفهاني عن أبي عبد الله الزبيري من أخبار الشعر واجتماع الشعراء في بيت هذه السيدة في المفاخرة، ليس المقصود منها سكينة بنت الامام الحسين (عليه السلام) إنما هي سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير، لأنه يروي في بعض مواضع كتابه (الاغاني) ان سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير كانت تجتمع مع عمر بن أبي ربيعة ومعها ابنة زوجة محمد بن مصعب بن الزبير وجاريتان يغنيان عندهم.
فهل يعقل مايقوله ضعاف النفوس في حقها؟ بالطبع كلا، فإن هذه السيدة الجليلة هي من نسل أهل بيت عرفوا بالعصمة والتقوى والتربية السليمة، وإن حادثة الحزن في الطف قد أخذت منها مأخذاً لأنها كانت حاضرة مع والدها في كربلاء، تشاهد ما جرى من المأساة العظيمة على أبيها وأهل بيتها، وتشارك النساء مصائب السبي والسير من كربلاء إلى الكوفة والى الشام ثم الى المدينة، وإن حالة الحزن لم تفارق أهل البيت بعد استشهاد الامام الحسين عليه السلام حيث قال الامام الصادق عليه السلام (ما امتشطت فينا هاشمية ولا اختضبت حتى بعث إلينا المختار برؤوس الذين قتلوا الحسين صلوات الله عليه).
*سكينة و الطف
من الصعب على الدارس حياة هذه السيدة العلوية الجليلة، إلا وأن يعرّج على عرصات كربلاء في ذلك اليوم المشهود على جبين التاريخ، فقد كانت كبرى بنات الامام الحسين (عليه السلام)، وما كان أشد حبه لهذه البنت التي حكم القضاء أن ترى مقتله بتلك الصورة البشعة والمروعة، وأيضاً مصرع أخيها الرضيع، وجيمع حماتها.
يروى ان الحسين (عليه السلام) لما أراد توديع أهله يوم عاشوراء ظلت سكينة (عليها السلام) في مكانها ودموعها جارية، لا تتقدم كباقي البنات والنسوة، كما لو أنها ترجو تغيير القدر ولا تقبل الاستسلام له بسهولة، فلاحظ سيد الشهداء هذا الحال على ابنته الحبيبة فعزّ ذلك عليه، فتوجه نحوها يكلمها ويصبرها، فجاءت هذه الأبيات على لسانه (عليه السلام):
سيطول بعدي يا سكينة فأعلمي منك البكاء اذا الحمام دهاني
لا تحرقي قلبي بدمعك حسرة مادام مني الروح في جثماني
فإذا قتلت فأنت أولى بالذي تأتينه يا خيرة النسوان
هنا أهدى الإمام (عليه السلام) ابنته بهذا اللقب العظيم وهي (خيرة النسوان)، لتحمله فخورةً طيلة حياتها، فقد كان عمرها في واقعة الطف ستة عشر عاماً، وعاشت بعد أبيها الحسين (عليه السلام) أربعة وخمسين عاماً، كلها فضيلة وشرف وعطاء، رغم القليل مما نجده في التاريخ عنها.
توفيت هذه السيدة الجليلة المظلومة في المدينة يوم الخميس لخمس خلون في شهر ربيع الأول سنة 117 هـ. فسلام عليها يوم ولدت ويوم توفيت ويوم تبعث حيّة.
ـــــــــــــ
*المصادر:
ـ أهل البيت في مصر، ص292.
ـ الأغاني، ج16 ، ص193، تذكرة الخواص، ص233.
ـ تذكرة الخواص، ص235.
ـ الأئمة الاثنى عشر لابن طولون، ص72.
ـ ناسخ التواريخ، ج2، ص386.
ـ تذكرة الخواص، ص250.
ـ وفيات الأعيان، ج2 ص329.
ـ السيدة سكينة، ص109.
ـ أهل البيت في مصر، (سكينة المفترى عليها لصافيناز كاظم) ص284.
ـ الاغاني، ج1، ص67.
ـ سكينة بنت الحسين، ص57.
ـ تنقيح المقال، ج3 ص203.
|
|