الوحدة الإنسانية من البصيرة القرآنية
|
*العلامة الشيخ نمر باقر النمر
إن العلاقات الإنسانية، التي تنبثق من منطلق الشعور الإنساني، والفطرة الإنسانية، تكون علاقة وطيدة وقائمة لا أساس متين غير قابلة للتفكك، لحاكمية المشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية في المجمل، وهي جامعة لتفكير وسلوك الإنسان، بينما العلاقات المنطلقة من الفكر البشري الذي يعجز عن التوصل الى مفهوم التوحيد الإلهي ونبذ العبودية للانسان، فان مصيرها هو التفكك والتشرذم، وهذا ما كان مشهوداً في عهد الجاهلية المظلمة التي طواها الاسلام ببعثة الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) الذي استطاع كأعظم شخصية في العالم كله، من أن يوحّد الناس على محور الدين والتوحيد وعبادة الله الواحد الأحد، وتستمر هذه المسيرة حتى قيام دولة الإمام المهدي - عجل الله تعالى فرجه الشريف - .
وفي كتابه المجيد يصرّح الله سبحانه وتعالى تعاليم السماء هي الوحيدة القادرة على توحيد النفوس والقلوب، وليس الجاهلية والافكار المنحرفة والشاذة عن الفطرة السليمة، حيث يتجرد الإنسان عن إنسانيته، وتحيله بهيمة همها علفها وتلبية غرائزها، بل وتكون عبيد تخنع لأمثالها. يقول الله سبحانه وتعالى: "وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ".
إن من غايات بعث الرسل والأنبياء هو إنارة الطريق أمام البشرية لتختار بين العيش في ظل غيِّ الطاغوت وظلمات الكفر والإلحاد، وبين المضي في طريق الرشد والإيمان و نور الإسلام، وقد منح الله تعالى الارادة للانسان ليتمكن من الاختيار واتخاذ قراره بكامل حريته، يقول سبحانه وتعالى: "لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ"
لكن هنالك شرطاً لدخول خيمة الوحدة والتوحيد، ومن الطبيعي أن تكون لرسالة السماء وتعاليمها السمحاء، مقدمات ثم التزامات لمن شاء تبنيها واتخاذها الوسيلة لمعرفة الحقائق في هذه الحياة، أهمها الصدق في الايمان وأيضاً في التخلّي عن خيمة الطاغوت من مختلتف الأنماط التي قد تكون على شكل حكّام ظلمة أو علماء سوء، ومن الشروط الأخرى تجاوز الأهواء والمصالح الشخصية من مال وجاه وسلطة وغيرها، وهذا الطريق لن يكون سهلاً ولا مفروشاً بالورود، بل هو مليء بأشواك الضغط الأمني والسياسي، وأشواك الضغط المعيشي، وأشواك الضغط النفسي والاجتماعي، وكذلك أشواك المطاردة وحتى الاعتقال والتعذيب والقتل.
إن الله سبحانه وتعالى قادر على توحيد البشرية تحت راية التوحيد، ولكنه تعالى شاء للعباد سنّة الابتلاء، وأعطاهم الحرية والاختيار لاتباع شريعة الإسلام ونور العقل و وحي السماء، وقد ميَّز الله لعباده الرشد بالإيمان بالله، من الغي بالاستسلام والخنوع للطاغوت، ذلك من أجل أن يتحقق مصداق الآية الكريمة: "لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ"، لذلك نجد التحذير الإلهي من مغبة ضياع الايمان وخسران الجهود والأعمال الجهادية والحسنة، وهو تحذير موجه بالدرجة الأولى للمؤمنين السائرين في طريق الرسالة، إذ ربما ينزلقون بجرة قلمٍ يخطُّ رؤى مبتورة، أو مواقف متخاذلة، أو يرضخون لضغوط معينة، فتضيع جهود سنوات من العمل والكفاح والتضحيات في سبيل الله سبحانه وتعالى: "إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".
إذن، علينا التحلّي بالصبر على طريق ذات الشوكة، وتجنب العجلة إلى حيث المكاسب الدنيوية كالزعامة أو الوجاهة، فهي تَحُول بيننا وبين ما يبقى ويدوم من الجزاء الأحسن من جنةِ عدنٍ والرضوان الإلهي في الآخرة الذي خصه الله سبحانه وتعالى للصابرين المخلصين.
لكن ماذا عن الطرف الآخر الذي لم ينضمّ قافلة الرسالة وطريق الحق الإلهي؟ هل لنا أن ننبذه ونتموضع حيث نحن مكتفين بما لدينا من أجواء إيمانية ورسالية؟
إن عدم إقامة وحدة إنسانية تحت مظلة التقوى وحبل الله لا يتنافى مع ضرورة التعايش الإنساني مع الآخر، وهو لا يتحقق إلا بتكوين وتشييد علاقات إنسانية طيبة وحميمة مع الجميع بمن فيهم المختلف المتعارض في الرأي، بل والأكثر من ذلك لابد من الاستمرار فعل الخيرات والبر والإحسان للجميع، بمن فيهم من يختلف معنا، بشرط أن لا يمارس العدوان علينا ولا على قيمنا، بل حتى عدم إقامة وحدة إنسانية تحت مظلة التقوى وحبل الله، لا يتنافى مع إقامة علاقات سياسية واقتصادية وأمنية، بل وعقد المعاهدات للدفاع المشترك بين الدول، وهذا ما يأمرنا به ربنا سبحانه وتعالى في قوله: "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ". وفي آية يبين فيها تعالى ضرورة التلاحم بين الأخوة في الدين الواحد ويقول: "وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ".
إن الوحدة الإيمانية تعلمنا حرمة التجاوز على حقوق الآخرين واحترام الآخر، حتى نكون جديرين بحصاد من ما نزرعه، ثم إن الاسلام لم يترك مفهوم الوحدة إطاراً دون محتوى، إنما خطّ له قيماً وأصولاً، منها؛ قيمة التعاون مع كل الناس مهما اختلفت مشاربهم ومعتقداتهم بشرط أن تكون على أساس الخير والفضيلة، وليس على أساس الرذيلة أو العدوان. يقول الله سبحانه وتعالى: "وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَن تَعْتَدُواْ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ"، ومنها أيضاً احترام حرية الآخرين و وجوب أداء حقوق المختلف مهما كانت عقيدته. عن الأصبغ بن نباتة، قال: لما وصلت الخلافة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وبايعه الناس، خرج إلى المسجد فصعد المنبر ثم قال: يا معشر الناس سلوني قبل أن تفقدوني... أما والله لو ثنيت لي الوسادة فجلست عليها لأفتيت أهل التوراة بتوراتهم حتى تنطق التوراة فتقول: صَدَق عليٌّ ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ، وأفتيت أهل الإنجيل بإنجيلهم حتى ينطق الإنجيل فيقول: صَدَق عليٌّ ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ، وأفتيت أهل القرآن بقرآنهم حتى ينطق القرآن فيقول: صَدَق عليٌّ ما كذب، لقد أفتاكم بما أنزل الله فيَّ، وأنتم تتلون القرآن ليلا ونهاراً فهل فيكم أحدٌ يعلم ما نزل فيه؟ ولولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان، وبما يكون، وما هو كائن، إلى يوم القيامة؛ وهي هذه الآية "يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ".
إن أمير المؤمنين (عليه السلام) هو النموذج الأنصع في احترام حقوق الانسان وصون كرامته، فقد كان (عليه السلام)، يرى أن لأعراض أهل الكتاب وأموالهم حرمة مثل ما يراه لأعراض المسلمين وأموالهم؛ فقد قال بعد ما أغارت خيل معاوية على الأنبار واعتدوا على أعراض وحرمة نساء المسلمين وأيضاً نساء أهل الذمة: ... ولقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقُلبها وقلائدها ورعاثها؛ ما تمنع منه إلا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين؛ ما نال رجلاً منهم كَلِم، ولا أريق لهم دم، فلو إن امرأ مسلماً مات من بعد هذا أسفاً؛ ما كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً.
وفي حديثٍ معروف أنه مرَّ بشيخٍ مكفوف يسأل الناس، فقال أمير المؤمنين: (ما هذا)؟ ولم يقل الإمام: مَنْ هذا؟ أ هو مسلم أم غير مسلم؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، نصراني! فقال: أمير المؤمنين : استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه؟ أنفقوا عليه من بيت المال.
وبلغ الاحترام لكرامة الإنسان وحريته في حكومة أمير المؤمنين أن الإسلام جعل للذمي ولغيره الحق إلى حدٍ يسمح له أن يخاصم إمام المسلمين نفسه؛ ويكون هو وإمام المسلمين أمام القضاء سواسية، ويطالبه بالبيّنة لدعواه، كما حصل ذلك في قصة درع أمير المؤمنين، ومخاصمته في عصر خلافته مع رجل من اليهود عند شريح القاضي.
لقد أسس أمير المؤمنين حكومته على أساس الكرامة والعدل والحرية والأمن والمحبة لكل الرعية، والمساواة بينهم. وهذا هو أمير المؤمنين يأمر الولاة ويوصيهم بحقوق الرعية والمساواة بينهم حتى في اللحظة والنظرة، وأن يكون على مسافة واحدة من الجميع من دون فرق بين معتقداتهم بين أن يكونوا مسلمين أو كتابيين.
|
|