العلم و العقل .. و سبيل الكشف عن الحقائق
|
*أنور عزّالدين
حين يكشف الاسلام وبصائره القرآنية الواضحة لغز العلم، ثم يكتشفه الانسان بذاته وبوجدانه دونما عناء. بل حينما يذكِّر القرآن البشر بحقيقة أنفسهم، فيثير فيهم دفينة العقل ويبلور فيهم فطرة النفس؛ حينئذ يتملك الانسان العجب من ان الامر الذي اكتشفه كان واضحاً معروفاً ؛ فلماذا كان يجهله ولم يعرفه من قبل؟
يقول الامام الصادق عليه السلام عن العلم: (انما هو نور يقع في قلب من يريد الله تبارك وتعالى أن يهديه). فالنور هنا لا يعني مثل هذه الاشعة التي تنبعث من المصباح الكهربائي وشبهه، او تلك الاشعة التي تبثها الشمس، بل النور هو ما يكشف شيئاً ما. فكما ان المصباح او نور الشمس يسقط على الاشياء المادية المحسوسة فيعكسها للعيان، كذلك العقل والعلم يكشف للانسان الحقائق كشفاً معنوياً.
فالعلم (نور يقع في قلب من يريد الله أن يهديه)، ما أجملها من عبارة وما اروعها...! دقيقة في محتواها، بسيطة سهلة الفهم والادراك، واضحة على عمقها لدى الكثيرين. عبارة عجزت البشرية عن ادراكها منذ خمسة الآف عام، فراحت تتخبط وتدور في حلقة مفرغة دون ان تكتشف هذه الحقيقة البسيطة التي عبّر عنها هذا الحديث، او الحديث الآخر القائل: (ان الله خلق العقل من نورمخزون مكنون في سابق علمه، الذي لم يطلع عليه نبي مرسل ولا ملك مقرب...).
هذه الكلمات البسيطة تكشف آفاقا عجزت صنوف البشر من فلاسفة كبار او عرفاء شامخين عن فهمها وادراك محتواها، ومن هنا تبرز حقيقة معنى قولنا ان علينا ان نلتمس باب الاسلام وان نحاول التذكر بالقرآن الحكيم والسنة النبوية وكلمات أهل البيت عليهم السلام، وهذا هو أيضاً معنى الحديث الذي روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام: (من دان الله بغير سماع من عالم صادق ألزمه الله التيه الى الفناء، ومن ادّعى سماعاً من غير الباب الذي فتحه الله لخلقه فهو مشرك، وذلك الباب هو الأمين المأمون على سرّ الله المكنون). فحين يعزب الانسان عن ولوج باب اهل البيت عليهم السلام ولا يريد التعلم من باب العلم ولا يأت البيوت من أبوابها، سيبقى في تيه وضلال؛ يدور حول حلقة مفرغة، ويبقى متمحورا حول نفسه لايدرك من اين ينبغي له ان يدخل.
الانسان و نوارنية العلم
مشكلة الانسان منذ القدم انه محب لـ (الأنا) ومعتدّ بنفسه، وفي مجال الفكر يريد دائماً ان يبدأ من نفسه وينتهي اليها، ليحرز بذلك السبق والابتكار ويشار اليه بالبنان. وهذا ما جعل الكثير من الحكماء والفلاسفة على مر العصور يدورون في حلقتهم المفرغة بحثاً عن حقيقة العلم وعلاقته بالانسان، فالبعض قالوا: إن العلم يطرأ على نفس الانسان؛ بمعنى ان النفس البشرية شبيهة بـ (فيلم) تنطبع عليه صور الاشياء. هذه المادة تتحسس النور، ثم وعبر مراحل أخرى تجرى عليها تأثيرات كيمياوية بمواد إظهارية تظهر الصورة؛ ثم تعكس على ورق حساس آخر فتبدو للعيان صورة الشيء. هكذا شبهوا نفس الانسان بأنها حساسة تتأثر بالمؤثرات الخارجية فتنطبع عليها الاشياء، وبالتالي يحصل العلم بها. وهذا هو الذي عبروا عنه بـ(الوجود الذهني)، وهنا كان الوقوع في المأزق، فراحوا يدورون في حلقة مفرغة. فهم يتساءلون عن هذا الوجود الذهني هل هو منطبق مع الوجود الخارجي ام لا ؟ فان قيل: لا ؛ فكيف يعلم ما لاينطبق مع معلومه؟ وإن قيل: نعم؛ يواجهون حينها مقولة ان الوجود الذهني من مقولة الكيف والوجودات الخارجية من مقولات شتى بعضها عرض وبعضها جوهر وبعضها زمان وبعضها مكان. ولعل مثالاً بسيطاً يوضح لنا هذا الاشكال، الذي لا يخلو عن شيء من التعقيد، فنقول : الماء غير الهواء وهما غير عنصر الاوكسجين، وهذا غير يوم الجمعة، إذ يوم الجمعة من مقولة الزمان والماء من مقولة الجوهر، وبرودة الماء من مقولة العرض وصغر حجم الماء وكبره من مقولة الكيف، وهذه أمور مختلفة شتى. وعلى قول الفلاسفة فأن النفس البشرية من مقولة الكيف، فكيف إذن تجتمع في النفس البشرية مقولة العرض ومقولة الزمان ومقولة المكان ومقولة الجوهر، وهذه كلها مختلفة مع طبيعة النفس ؟
ولكي يجيبوا عن هذا التساؤل، اتجه كلٌ اتجاهاً، ونحا منحى خاصا به؛ فبعضهم قال: الموجود في الخارج غير الموجود في ذهن الانسان، وبعض قال بتحوّل الموجود في الخارج حينما يدخل في ذهن الانسان، وبعض نفى كلا الاتجاهين وقال: العلم إن هو إلا إشراقة النفس وانبساطها على الموجودات الخارجية، وقالوا: ان النفس البشرية لها امتدادات وتموجات، وحين تتموج النفس وتصل الى الموجودات الخارجية. فذلك يعني العلم.
هذه الاقوال ربما تجر قائلها الى الشرك وتدخله في الكفر، إذ لو كان العلم هو دخول الاشياء في ذهن الانسان فكيف يدخل علم الله؟! هل يدخل الوجود والموجودات في ذات الله القدوس السبوح المنزّه الذي هو أكبر من أن يوصف؟! إذن هذا هو الشرك بعينه، وهذا هو الكفر بذاته. لكن الانسان حين يرتفع عن مثل هذا التفكير الحضيض، ويتجّنب السقوط في هاوية الشرك، يدرك ان العلم لا هذا ولا ذاك، وانما هو انكشاف الاشياء للنفس البشرية عبر نور الهي.
وهناك من الفلاسفة من يقول بأن النفس البشرية ذاتها علم. ونتسائل: لو قلنا ان النفس البشرية ذاتها علم، فهل يمكن حينئذ القول بان العلم من الله سبحانه؟ لكنهم مهما قالوا ومهما احتجّوا على ذلك نراهم يضطرون للاعتراف بخطـأ هذا التفكر حين يرجعون الى فطرتهم والى وجدانهم، إذ لوكانت ذات الانسان هي العلم فلماذا يجهل الانسان الاشياء، وبتعبير آخر لكان الانسان يعلم كل شيء. ثم لوكان الحال كما يقولون لماذا ينسى الانسان نفسه بالذات ويجهلها، ذلك لانه بفطرته وبوجدانه يعرف أنه ليس العلم وانه لا يعلم كل شيء "وَمَآ اُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً" (الاسراء /85)، كما إنه يعرف بوجدانه وفطرته انه ينسى نفسه أحياناً كثيرة، فالله سبحانه وتعالى يقول: "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَاَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ اُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (الحشر /19)، فهو ينساها حالة النوم وينساها حالة الغفلة، ولو كانت النفس هي العلم لكان من المستحيل ان ينسى الانسان نفسه.
وآخرون يقولون بأن العلم صورة في الذهن، ونحن نتساءل عن الضمانة. بمعنى ان الانسان حين يعلم الاشياء كيف يضمن أنها تنطبق مع الحقائق الخارجية، فلو عرضت عليه صورة شخص ما وقيل له هذه صورة فلان، الذي لم يسبق له رؤيته، اتراه يصدق هذا الادعاء ؟ كلا بالطبع، لانه لا يستطيع تطبيق الصورة المعروضة عليه مع الحقيقة الخارجية، وهو ذلك الانسان الذي لم يره قط.
وهنا نعود فنقول: لوكان العلم صورة في ذهن الانسان او في نفسه دون انكشاف الاشياء بصورة مباشرة ؛ فما هي الضمانة بانطباق وتوافق هذه الصورة مع الحقائق الخارجية ؟ وهذا ما دفع البشر لاستحداث علم سمّوه بالمنطق، ولعل هذا اللغز كان اساس استحداث علم المنطق، وان تنوع فيما بعد فظهر على الساحة بمسمّيات عديدة كمنطق ارسطو الشكلي ومنطق ديكارت ومنطق كونت ومنطق ماركس وغيرها. لكن مع هذا كله مازالت البشرية تخطئ، فهذه المناهج العلمية لن تنفع إلاّ القليل، لان الحل يكمن في ان العلم يكشف الاشياء بصورة مباشرة ويظهرها للانسان، وليست هي صور الاشياء التي تنطبع في ذهن الانسان.
السبيل لإكتشاف الحقائق
حين يعرف الانسان ماهية العلم، وينتبه العقل لذاته من خلال وجدانه ومن خلال آيات العلم ودلائله، يكتشف انه يعلم ان كل معلومة اكتشفها العلم فهي صادقة، وكل معلومة اكتشفها العقل صادقة ؛ ويكتشف ايضاً ان كل معلومة عرفها من خلال الظن ومن خلال الأماني والأهواء والشهوات فهي غير صادقة. لذلك فالاسلوب الأهم لإكتشاف الحقائق وعدم الزيغ عنها، أبتداءً من الايمان بالله تعالى وإنتهاءً بأصغر الاشياء هو أن يعرف الانسان العقل؛ ان يعرف العلم. وهذا لا يعني ان يعرف الانسان العقل او العلم عبر التوصيفات والمفاهيم، بل ان يعرف الانسان نور العلم الموجود لديه من خلال آياته ومن خلال بصائره، وحينها سيكون العلم واضحاً لديه موثوقا به مطمئنا إليه، وفي غير هذه الصورة تصبح معرفته جهلاً وتيهاً وضلالاً؛ اذ ليست تلك المعرفة إلا مجموعة أوهام وظنون وخرافات وأساطير.
إن القرآن الحكيم يقول: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فيتبعون أحسنه"، بمعنى هنالك كلمتان، إحداهما (سماع) والأخرى (استماع). والسماع هو ان يسمع الانسان شيئاً دون ان يتوجه إليه ودون ان يركز الانتباه له، بينما يعني الاستماع أن يسمع الانسان شيئاً مع الانتباه والالتفات. فالقرآن الحكيم يشير الى الذين يركزون الانتباه الى الكلام، وإلى الذين يقصدون التوجه الى الكلام فيأخذون الصحيح ويتركون غير الصحيح: "الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُولُواْ الاَلْبَابِ" (الزمر /18 ) أي أولئك هم أصحاب العقول. وكما يقول القرآن الحكيم ايضاً: "يآ أَيُّها الَّذِينَ ءَامَنُوا إن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصيبُوا قَوْماً بِجَهَالةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" (الحجرات /6)، فالله سبحانه وتعالى يريد من عباده التثبّت مـن الاقوال في انفسهم، لأن اقوال الفساق لا تجرّ الانسان إلاّ الى الندامة، إذ الفاسق ليس إلاّ الباب الذي يدخل منه الجهل. ويقول القرآن الحكيم أيضاً: "أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ" (المؤمنون /6(، فحين يعرف الانسان الرسول الذي أرسله الله تعالى يعرف لزوم الأخذ عنه، لانه لا ينطق عن الهوى، وما جاء به الرسول فمن الله وهو النور، والنور هو العلم.
تقول الروايات: (عدو علمك الهوى) و(العلم مكسوف بطوع الهوى)، إذ الانسان حين ينساق وراء أهوائه ورغباته، انما ينشئ حاجزاً بينه وبين الحقائق. بينما العقل وفي كثيرمن الاوقات يخالف الهوى، وحين ينجر الانسان وراء هواه تراه يخالف العقل، ولعله ينصت بكل جوارحه حين يتحدث الآخرون عن حسن صفاته ومحاسنه ويكيلون له المدائح والاطراء عليه وإن خالفت الواقع. وعلى العكس من ذلك سينتفض تاركا المكان مرتعد الفرائص منتفخ الأوداج منشدّ الاعصاب لمجرد ذكر معايبه ومساوئه وان هي وافقت الواقع. كل ذلك لان التحدث عن محاسنه مما وافق هواه والتحدث عن مساوئه مما خالف هواه، وهذا الانجرار وراء الأهواء هو الجهل بعينه.
من هنا نعرف مغزى الحديث النبوي الشريف: (المؤمن ينظر بنور الله)، إن مسيرة حياة الانسان اليومية فيها الكثير من الامثلة التي تدلل على أن قلب المؤمن ينبئه بكثير من الاحداث قبل وقوعها وحدوثها، ويخبره بكثير من الاحتمالات والتوقعات. فهو حين يغمض عينيه لا شك ان قلبه يبقى بصيرا، وهذا ما يطلق عليه اليوم بالحاسة السادسة. ونحن كثيرا ما نصادف وقوع مثل هذه الاحداث المتوقعة ببصيرة القلب بعد ان نكون أحسسنا بها قبل وقوعها. وكثيراً ما يحدث حين ينوي الانسان الخروج من البيت مثلاً، أن يحس وكأن أحداً أخذ على يده ليمنعه من الخروج، لكنه حين يظن ذلك وهماً او نوع خرافة، فَيَهُمُّ بالخروج وإذا به يصادف حدثاً سلبياً، كأن يرى شخصا لم يكن يود رؤيته، او ان يقع على الأرض ويحدث له ما يسوؤه، هذه القضايا والأحداث ليست هي بالنسبة للمؤمن صدفة، بل هي بالنسبة له نور من الله ينظر به. ولذا فهو حين يريد الخروج من البيت ويبدو له ما يتشاءم منه او يتطيّر منه تراه يبادر لقراءة آيات من القرآن الحكيم ويعطي الصدقة التي تدفع عنه البلاء، بل وتراه يكون حذرا ببصيرة النور الذي وهبه الله إياه ثم يتوكل على الله ويقدم على الخروج. فالله سبحانه وتعالى يحذّر الانسان من الخطر القادم، لكن هذا لا يعني الاستسلام للحوادث المتوقعة، بل لابد وبنور العلم والعقل من الاستعداد لوقوع المشكلات والتصدي لها والحذر من مجابهة الخطر. إذ ان أغلب المشكلات سببها شرود الذهن وذهاب الفكر وفقدان البصيرة، والمؤمن حينما ينظر بنور الله ينحصر تفكيره في مجالات الخير فحسب، لذا تراه يدفع عنه المشكلات باختيار سبل الخير من تزكية لأمواله ودفع الصدقات ومساعدة المحتاجين... الى ما لا نهاية له من سبل الخير. وحينها لا يواجه إلاّ ما يكون له فيه الخير من الله، لان الخير وزير العقل والشر وزير الجهل، وإلا فان الله تعالى مقلب القلوب والاحوال. قال سبحانه: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لاَيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ" (الحجر /75) والمتوسّم هو المؤمن الذي يرى الاشياء على حقيقتها.
|
|