الإصلاح ومكافحة الفساد ، سبيل النهضة الحسينية
|
*إعداد / بشير عباس
ان الاصلاح هو رسالة الانبياء وهدف الائمة المعصومين وهو كذلك رسالة أبي عبد الله الحسين صلوات الله عليه. ففي اول خطبة ألقاها في مكة المكرمة وكانت انطلاقة ثورته العظيمة، قال عليه السلام: (واعلموا اني لم أخرج إشرا ولا بطراً ولا مفسداً ولاظالما وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي ...).
وحينما ندرس القرآن الكريم نجد انه يبين لنا بوضوح ان الله قد أصلح الكون، بمعنى انه تعالى خلق الكون والخليقة على أسس ثابتة حكيمة و رشيدة. أنّى توجهت و نظرت وتعمقت، لم تجد في هذه الفضاءات الرحيبة وفي هذه الاجرام العظيمة، وفي كل شيء صغير او كبير من أصغر ذرة الى اكبر مجرة، إلا النظام الدقيق والتدبير الحكيم، لا يشذ شيء عن ذلك، فهذا هو الصلاح والاصلاح. أما كل تغيير عن هذا المسار فهو الفساد بعينه، أي ان كل مخالفة لسنن الله في الحياة هي فساد وإفساد، ولذلك ربنا يقول في الآية الكريمة سورة الاعراف "ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها". وهذه كانت مهمة الانبياء عليهم الصلاة والسلام، إنما بُعثوا لكي يقولوا للناس حين انحرفوا عن المسار الصحيح وافسدوا: (ان عذابا عظيما ينتظر المفسدين، ان لم تتوبوا الى الله، وإلا فان العاقبة السيئة هي المصير)، فاذا استجاب الناس رفع الله عنهم العذاب واصلح أمرهم، وإلا فان العذاب يُصب عليهم صبا، ويستأصلهم تعالى عن بكرة ابيهم. وهذه هي الدورة الرسالية في التاريخ وخلاصة كل ما نقرأه في القرآن المجيد من قصص الانبياء، تلك القصص الحق التي تتكرر في نبي وآخر ولكن بصور شتى.
(التطفيف) والفساد الاداري
لقد بعث الله تعالى نبيه شعيب مرتين، وهو من أهل (مدين)، مرةً الى منطقته ومرة الى غيرها، فحينما بُعث الى (مدين) كانت رسالته واضحة، وهي العودة الى عبادة الله، وعدم السرقة في الميزان، وهذه الحالة والظاهرة الفاسدة كانت سائدة في قوم شعيب، إذ لم يكن ليأخذ كل ذي حقٍ حقه، لذا خاطبهم نبيهم: "فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ"، فالبخس والتطفيف في المكيال والميزان، كلها مفردات للفساد والظلم بين الناس، وحذرهم شعيب عليه السلام، من ان هذا النهج سيتحول الى معول لتدمير اقتصادكم، فالاقتصاد الناجح والصاعد لا يمكن ان يتحقق بظلم الانسان لاخيه الانسان، وهذه سنّة الهية في الحياة. لنلاحظ بلادنا الاسلامية التي تمتلك بمعظمها الثروات المعدنية الهائلة والامكانيات الاقتصادية من زراعة وصناعة وأيدي عاملة وعقول، لكن مع ذلك نجدها في أسفل اقتصاديات العالم، فهي تأكل وتلبس وتسد معظم – إن لم نقل كل- احتياجاتها مما تصدره الدول ذات الاقتصاديات الناجحة.
هذا في عالم الدنيا، أما في الآخرة حيث الحساب يختلف كثيراً، فهو عسير وشديد، وربنا تعالى شديد اللهجة في مسألة الظلم وحقوق الناس فيما بينهم. هذا الظلم ربما يكون باشكال متعددة، او في جزئيات الامور التي لا يلتفت اليها البعض، مثل حركة كفتي الميزان أو (القبّان) في تعاملات الناس لاسيما على شكل بيع (الجملة) وليس المفرد الواضح الحجم، وربما يكون من خلال (بخس) الناس أشيائهم، كأن ألغي دور انسان عامل في سبيل الله وأحل محله بدوافع مختلفة، و ربما يكون الظلم بتعاطي الرشوة وخوض الفساد المالي والاداري، وغير ذلك كثير. لكن النتيجة واحدة، وهي الحساب العسير يوم القيامة، ففي الاحاديث أن أول شيء يوضع للحساب يوم القيامة مظالم الناس، فتفتح الدواوين، ويخرج كل ظالم ليرضي المظلوم بان يتنازل عن حقه، ومن الواضح انه لن يتنازل في ذلك اليوم المهول والعظيم، فالجميع بحاجة الى حسنات تجوز بهم الصراط ليتخلصوا من جحيم النار، فإما يأخذ المظلوم من حسنات الظالم، أو ان يلقي بسيئاته عليه...! بمعنى ان الخيارين أحلاهما مر!! لكن بالنتيجة المعادلة حقّة، لذلك يقول تعالى: "وقد خاب من حمل ظلما". (طه /111).
لكن كيف يحمل الانسان الظلم يوم القيامة...؟!
من يغتصب قطعة من أرض جاره، مهما كانت صغيرة حتى وان كان شبراً واحداً، فانها تأتي يوم القيامة وقد اقتطعت من سبع أرضين، أي من عمق عشرات الكيلومترات في سطح الارض، ويتم تعليقها في رقبة ذلك الغاصب والمتعدي على الحقوق، فيطوف بها امام الخلائق في المحشر. وهذا بالنسبة لقطعة بسيطة من الارض، فما بالنا بالدور السكنية والاراضي الواسعة والبساتين وممتلكات الدولة والناس...؟! وهذه ايضاً من المعادلات الحكيمة والحقّة ، وليس لأحد الاعتراض، فهذا هو الاصلاح والصلاح، وجاء في مقابله الفساد والافساد، لنفترض انك تشتري سيارة من الشركة المصنعة. أول ما تبحث عن متانتها من حيث تركيب الاجزاء المتعددة من المحرك الى هيكل السيارة ومقاعدها وعجلاتها وغير ذلك، فاذا أجريت أي تغيير او تعديل في قطعة صغيرة هل تسير سيارتك بشكل صحيح؟ انها إن تحركت لبعض الوقت ستجلب لك الكارثة؟ وهذا ما يريد ان يبينه لنا ربنا تعالى وهو أحكم الحاكمين وخالق الكون والكائنات.
الفساد و الصدّ عن سبيل الله
عندما يتحدث ربنا تعالى عن الفساد فانه بالحقيقة يضيء لنا سبل الرشاد والنجاة بالمقابل، فالصلاح والاصلاح عامل يضمن سعادتنا في الحياة، لذا يبين تعالى المفردات الاخرى من منظومة الفساد والافساد في الحياة، تقول الآية الكريمة: "ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله من آمن به"، (الاعراف /86)، بمعنى لا تغيروا المسار الطبيعي للحياة، فهنالك من يريد بناء مسجد او هيئة حسينية او مكتبة او أي مشروع ثقافي واجتماعي، فلا ينبغي أن يواجه الصدّ والمنع، فهذا سبيل الله وليس سبيل هذا وذاك. او يحصل ان مسلماً يروم أداء فريضة الحج فيحال دون ذلك لاسباب معينة، وهذا عين الصد عن سبيل الله، و قد لا يحصل الصدّ بقرار صريح ومباشر بحيث يورط المسؤول... إنما من خلال الوعيد والترهيب او حتى التضليل بحيث يتخلّى الناس عن سبيل المعروف، وبذلك فان الانسان المؤمن لن يجد الطريق الذي يعمل بايمانه وعلى الصراط المستقيم الذي رسمه الله تعالى. "وتبغونها عوجا" بمعنى ان هنالك محاولات لأن يكون العمل او البذل وفق الصراط المرسوم من هذا وذاك، وبما ينسجم مع المصالح والمنافع، وفي نفس سياق الآية الكريمة: " وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ "، وليعلم الناس جميعاً انهم ليسوا أول من سكن هذه الارض، فقد مرّ علينا أناس كثيرون وأمم جاءت وبادت وتجربة المفسدين قائمة، فلماذا لا يستفيد انسان اليوم من تلكم التجارب حتى لايبتلى بعاقبة المفسدين؟
في آية اخرى ربنا يقول: "وسكنتم في مساكن الذين ظلموا انفسهم وتبين لكم كيف فعلنا بهم وضربنا لكم الامثال * وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وان كان مكرهم لتزول منه الجبال". (ابراهيم /45) ان الحكام والمسؤولين في بلادنا يرون بأم أعينهم كيف ان هذا الزعيم وذاك يسحب ذليلاً بأيدي الثائرين وتسقط الانظمة مثل أوراق الخريف، وقد كان بعض أولئك يصفون شعوبهم الثائرة بـ (الجرذان)، وكانوا بحركة بسيطة من القلم يحكمون باعدام الآلاف من الناس، لكن في نهاية المطاف وجدوا انفهسم امام الموت الزؤام... كل ذلك وغيره يجب ان يكون عبرة لمن يعتبر، لكن تبقى مشكلة البشر هي التكبر والتعالي والعزّة بالأثم. بالرغم من التشابه والتطابق في الممارسات والنتائج بين هذا النظام الفاسد وذاك وبين هذا الحاكم الطاغية وذاك، إلا اننا نجد من يكابر ويجادل في المعادلة الإليهة باني (لست منهم....)!
الإصلاح مهمة الجميع
السؤال الذي يثور امامنا الآن: من الذي عليه إصلاح الامور...؟
هل هي الحكومة وأجهزة الدولة؟ أم الحوزة العلمية ومراجع الدين؟ أم الخطباء والمفكرون والمثقفون؟ واذا كان الجواب لأحد الخيارات المطروحة او كلها – مثلاً- فهل يعني ذلك ان يجلس سائر الناس ينتظرون الاصلاح يأتيهم على طبق من ذهب فينتقون منه ما يشاؤون؟!
هذا المنطق الذي يتبعه الكثير ويعبر عن اسلوب التبرير والتنصّل من المسؤولية، لا يقبله منّا الله تعالى، وهو منطق مرفوض، إنما المسؤولية جماعية، والاصلاح مهمة كل فرد في المجتمع، الصغير والكبير والمرأة والرجل، المتعلم وغيره. وهذا مصداق الآية الكريمة: "إنا عرضنا الأمانة على السموات والارض والجبال فأبين ان يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان إنه كان ظلوماً جهولا"، فالذي حمل الامانة كان انساناً بغض النظر عن اوصافه، وإذن؛ فالمسؤولية ليست خاصة بالعلماء ولا الخطباء ولا الوزراء او غيرهم، إنما على كل انسان مسؤولية حمل الامانة المتمثلة في الاصلاح والتزام طريق الرشاد وليس الفساد. ثم ألم يقل ربنا تعالى: "وأن تردوا الامانات الى أهلها"، فهل نجتمع عند الراحة والعافية والمكاسب لنحصل على كل شيء، لكن عند تحمل مسؤولية الاصلاح يتنصّل وينسحب الجميع ويلقي كلٌ بالمسؤولية على الآخر...؟! ثم أين يكون منّا الحديث النبوي الشريف: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته). طبعاً مع فارق الحجم في تحمل المسؤولية، فربما يكون واجب الطبيب اكبر من الموظف، او واجب عالم الدين والمرجع اكبر من واجب الطالب في الحوزة العلمية وهكذا... وفي الحديث الشريف: (ان الله تعالى يغفر للجاهل سبعين ذنباً قبل ان يغفر للعالم ذنبا واحدا)... لكن في كل الاحوال يبقى تحمل المسؤولية من واجب الجميع.
عاشوراء .. رمز الاصلاح
علّمنا الامام الحسين عليه السلام كما علمتنا نهضته الكبرى ان الاصلاح ليس من مسؤولية شخص واحد، انما هي على كل انسان أنى كان مستواه ومكانته، فعندما كان عليه السلام يطلق نداءاته عالياً بالنصرة والانضمام الى جبهة الحق، إنما كان يوجه خطابه للآلاف المؤلفة من المغرر بهم في جيش الضلال والباطل، وايضاً الى اهل الكوفة الذين غدروا به، وكذلك يوجه نداءه للتاريخ والاجيال، وينقل التاريخ ان الى جانب الحر اهتدى اشخاص عديدون وانضموا الى معسكر الامام عليه السلام بعد ان سمعوا و وعوا النداء وتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل. وإلا ما الذي كان يجبر الحر وهو قائد عسكري ورجل ذو مكانة وهيبة في الكوفة من أن يخسر كل شيء في حياته؟ وكذلك الحال بالنسبة لزهير بن القين الذي كان معروفاً بانه (عثماني الهوى)، وغيرهم فضلوا نصرة الحق والقيم والمبادئ على نصرة الطاغية والحصول على حفنة من الاموال الوسخة.
ان نداءات الامام الحسين عليه السلام ما تزال تتردد عبر الاجيال، ومع قرب شهر محرم الحرام وصفر وتجدد الاحزان على مصاب أبي عبد الله الحسين واهل بيته واصحابه، فان الزائرين من كل حدبٍ وصوب والمعزين يهتفون بصوت واحد: (لبيك داعي الله... ان كان لم يجبك بدني عند استغاثتك، فقد أجابك قلبي وسمعي وبصري). هذه التلبية بالحقيقة تمثل نصرة المبادئ والقيم التي استشهد من اجلها الحسين عليه السلام، وهي مبادئ السماء والقرآن الكريم واقتلاع جذور الفساد والانحراف في الامة.
إذن؛ نعرف ان سبيل الامام الحسين عليه السلام هو اجراء عملية اصلاحية واسعة وشاملة ودائمة تستمر حتى قيام الامام الحجة المنتظر عجل الله تعالى فرجه، فهو عليه السلام سيرفع راية الامام الحسين، ورب سائل: ولماذا يحمل الامام الحجة راية جده الحسين عليهما السلام؟ سيجيبنا الامام نفسه عجل الله فرجه بنفس ما قاله جده الحسين عليه السلام: (إنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر).
لا نكون جنوداً للفساد
ان كل ظواهر الفساد والانحراف لن تأتي قطعاً من خارج الواقع الذي نعيشه، إنما هي من صميم الواقع، وكما أسلفنا فان الله تعالى أنعم علينا وعلى البشرية بنعمة الهداية "إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا" (الانسان /3)، فالانسان بامكانه ان يشق طريق الفساد بنفسه إن شاء ذلك، وإن لم يشأ فلا قدرة في الكون تجبره على سلوك طريق الانحراف والقيام باعمال الفساد، حتى الشيطان الرجيم ليس له سلطان على الانسان. وعليه بدلاً من ان يكون جندياً في سبيل الفساد، حريٌ بكل انسان شريف و ذو لب أن يكون جندياً في سبيل الاصلاح. واذا كل انسان تحمل مسؤولية الاصلاح ومكافحة الفساد أياً كان وفي أي مكان، فان الحياة تصبح جميلة وهانئة للجميع، وهذا لن يتحقق اذا كنا متفرقين، كلٌ يسير في اتجاه، انما بالوحدة والعمل الجماعي، وهذا بدوره لن يتحقق إلا من خلال إصلاح ذات البين وازالة كل عوامل التباعد والشقاق. ثم ان جدار الوحدة المرصوص لن يدع مجالاً او ثغرة للشيطان ان ينفذ ويفسد النفوس ويبعدها عن الدين، والعكس بالعكس، لذا على الجميع، وكلٌ من موقعه ان يحاول تضييق شقة الخلاف بين المؤمنين وعدم الخوض في نقاط الخلاف وتبادل كلمات الغيبة والنميمة والتنابز بالالقاب. فهذه آيات القرآن الكريم تحذرنا من خطورة الغيبة والتهمة والتنابز بالالقاب و السخرية من الاخرين وايضاً من العصبية والحميّة. كل هذا يُعد خطوات مهمة على طريق الاصلاح وتقوية قواعد الامة واركانها لتكون حقاً النموذج الراقي والناجح الذي اراده لنا الله تعالى ونبيه.
|
|