ثقافة التغيير: المبدأ والمسار والضرورات
حوارمع سماحة آية الله السيد هادي المدرسي
|
تنشر صحيفة (الهدى) هذا القاء بالتعاون مع مجلة البصائر الفصلية التي تعنى بشؤون الفكر والقضايا الاسلامية والتي تصدر عن مركز الدراسات والبحوث في حوزة الامام القائم (عج) العلمية بفروعها في كل من منطقة السيدة زينب (ع) في سوريا، وكربلاء المقدسة، وايران، وبلدان اخرى، والتي اجرت اللقاء مع سماحته.
العراق والديمقراطية
البصائر: بعد التغيير في العراق، وماتركه من ارهاصات ونتائج تشكلت شيئا فشيئا بضرورة التغيير في الأنظمة السياسية نمت في الدول العربية والإسلامية وحتى المحافظة منها اتجاهات تدعو إلى عملية الإصلاح والتغيير، وقد تتواصل تلك الدعوات وتخلق واقعاً جديداً، كيف تنظرون لهذه الدعوات؟ وما هو المدى الذي يمكن أن تصل إليه؟ وما هي ضرورات التغيير والإصلاح؟.
آية الله المُدرسي: الإنسان كالماء فكما أن الماء إذا توقف أصبح آسناً وفسد وأفسد ما حوله، كذلك الإنسان إذا توقف عن التغيير والإصلاح الدائمين، لأن الحياة بين أمرين لا ثالث لهما، إما أن تتطوّر إلى الأحسن أو تتراجع إلى الأسوأ، وليس الإنسان استثناء من هذه المعادلة الربانية التي تكشف عنها الروايات والأحاديث المختلفة الداعية والمبشرة بالتغيير، حيث إن كثيراً منها تنادي بالتغيير وتحث عليه، وترى أنه إن لم يقم الناس بتغيير أنفسهم وتغيير أمورهم فإن الله عز وجل هو الذي سيفعل ذلك عن طريق البشر أحياناً وعن طريق الأنبياء في أحيان أخرى، في الحديث الشريف الذي يقول: (من استوى يوماه فهو مغبون، ومن كان آخر يوميه شرهما فهو ملعون، ومن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى نقصان، ومن كان إلى نقصان فالموت أولى به)، يكشف عن معادلة: إما التغيير إلى الأحسن وإما التراجع إلى الأسوأ، وحينما يكون التراجع إلى الأسوأ، فإن الموت والركود والتوقف وكل سيئات الحياة تتراكم في ذلك المجتمع وتلك الأمة وأولئك الناس الذين يرفضون التغيير، أو أن قوى معينة في داخلهم توقف التغيير والإصلاح فيهم وتكون النتيجة أن تلك الأمة ستكون ذليلة، لأن الميت هو الذي يلحق بالحي وليس العكس، الحياة كلمة معناها الحيوية ولا حيوية بلا تحرّك، ولا قيمة لتحرك ليس باتجاه الإصلاح، هذا فيما يرتبط بآخر السؤال: ما هي ضرورات التغيير والإصلاح؟.
أما فيما يرتبط بأول السؤال، فلا بد من أن نعرف أن ربنا عز وجل جعل قاعدة التدافع في الحياة قاعدة أساسية، فحينما يكون هناك استبداد في مكان ما فإن ربنا سيدفع بأناس معينين، إما دفاعاً عن مصالحهم وإما رغبة في أن يذكروا في التاريخ وإما بأية علة أخرى، يدفعهم باتجاه أن يزيلوا أولئك الذين منعوا الحياة من أن تكون حياة فيها التغيير والإصلاح، بإزالتهم من الوجود أو إبعادهم من مركز اتخاذ القرار. التغيير إذن كان مطلوباً قبل ما حدث في العراق ويبقى مطلوباً بعد ما حدث، والإصلاح ضرورة من ضرورات هذه الدنيا، ونمو الاتجاهات التي تدعو إلى الإصلاح، لا ارتباط لها بحادثة تقع هنا أو هناك، كان لابد من أن تنمو دعوات الإصلاح والتغيير سواء بسبب ماوقع في العراق أو بأي سبب آخر حتى -كما يقول الفقهاء- بسبب جريان الميزاب أو طيران الغراب، فأحياناً يكون هنالك صاعق يفجّر في الأمة طاقات كامنة باتجاه الإصلاح وباتجاه التغيير، هذا الصاعق لا ارتباط له بإرادات الناس إنما له ارتباط بإرادة الله عز وجل.
البصائر: الإعلام الأمريكي قبل الحرب الأخيرة وبعدها بشّر بجعل العراق واحة الديمقراطية في الوطن العربي، كيف تنظرون لمستقبل الديمقراطية في العراق، وهل يمكن فعلاً تحقيق هذا المشروع، وما تأثيرات ذلك على العالم العربي والإسلامي ؟
سماحته: الديمقراطية الغربية هي أحسن أسوأ أنواع الأنظمة في العالم فهي ليست الأفضل بشكل مطلق لكنها بديل ممتاز، لاستبدادية المستبدين ودكتاتورية الديكتاتوريين، وخزعبلات الفاسقين والمفسدين الذين يتحكّمون في مصائر الناس، هي ليست منتهى طموح الإنسان ولا هي نهاية التاريخ كما نادى به فوكوياما، إنما الديمقراطية بديل عن الاستبداد وهي أفضل أسوأ أنواع الأنظمة في العالم. يعني لو وضعنا الديمقراطية في مصاف الحكومات المطلقة والحكومات الاستبدادية والحكومات المتوارثة وما أشبه فإن الديمقراطية قطعاً هي البديل الأفضل، لكن الديمقراطية ليست سلعة يمكن استيرادها أو تصديرها، الديمقراطية هي عملية تحوّل من داخل المجتمع باتجاه الأفضل، فتماماً كما لا يمكن فرض التقدم على شخص متخلف لا يريد أن يتقدّم، كذلك لا يمكن لأمة لا تريد الديمقراطية أن تجعلها تتمسك بالديمقراطية.. في العراق نضال بعيد المدى منذ عشرات السنين من قبل أبناء أكثرية في العراق باتجاه الإصلاح والتغيير، ومن أجل تبادل السلطة بين الناس، وهذا النضال انتهى إلى أن تفرغ حكومة صدام المستبدة الطاغية من محتواها ومن ثم أصبحت الفاكهة الفاسدة التي رفضت الشجرة أن تمدّها بالماء والأكسجين بسبب فسادها، وجاء شخص ما فضرب هذه الفاكهة بعصاه فسقطت على الأرض، هذه الفاكهة لو كانت ناضجة وقوية ومتماسكة ومرتبطة بجذورها وعروقها، لم تكن القضية سهلة في أن يسقط نظام مستبد يمتلك الأموال ويمتلك الجيش ويمتلك الأسلحة ويمتلك مخابرات ويمتلك فدائيين، ويمتلك حكومة، أن تنهار خلال واحد وعشرين يوماً!. نحن ننظر إلى مستقبل الديمقراطية في العراق نظرة متفائلة بحذر، لا متشائمة بالمطلق، ولا متفائلة بالمطلق، إنما تفاؤل حذر، والأمر يرجع إلى التفاعلات التي ستحدث داخل المجتمع العراقي ومدى نمو القوى الداعية إلى حقوق الإنسان وإلى احترام رأي الأكثرية، وإلى تبادل السلطة وإلى تقاسم الثروات الموجودة بشكل عادل في داخل المجتمع العراقي، فالمشروع الديمقراطي في العراق، ليس مشروعاً مستورداً. صحيح أن قوات التحالف تذرعت بمجموعة أمور منها قضية الديمقراطية في العالم العربي والإسلامي ككل، وفي العراق بشكل خاص، إلا أن ذلك كان أحد تبريرات الحرب وإن كنا نرى إن من العيب أن تأتي قوى أجنبية وتطالبنا بالديمقراطية بينما حكوماتنا كلها مستبدة، أقول من العيب، لأننا كنا نتوقّع أن هذه الحكومات تتعقل وتأخذ العبر، شخصياً أطالب كافة الحكومات أن تأخذ العبر مما حدث للطاغية لصدام وأمثاله ، ولو أن صدام كان قد أخذ العبرة مما حدث في إيران بالنسبة إلى الشاه، ربما لم تصل الأمور إلى ما وصلت إليه، ولو أن الشاه كان قد أخذ العبرة مما حدث في أفغانستان، لربما لم يحدث له ما حدث، ولو أن الذين حكموا في أفغانستان أخذوا العبرة من الذين سبقوهم لم تكن أوضاعهم تنتهي إلى ما انتهت إليه، ولو أن كل حاكم أخذ العبرة من الحديث المعروف: (لو دامت لغيرك لما وصلت إليك) لم لا يحدث هو ما حدث لطغاة الدهر، من هنا أقول: له إن الإعلام قبل الحرب بشّر بجعل العراق واحة ديمقراطية، هذا كانت جزءاً من وسائل الحرب لكنه كان شعاراً جميلاً يتوق إليه أبناء العراق وأبناء المنطقة، وهم رفعوا هذا الشعار لأنهم يعرفون أن هذه المنطقة تعاني من الاستبداد، ولأنها تعاني من الاستبداد فهي سوف تقبل من الذي يقول لها: سوف نخلّصك من الاستبداد البشع الذي يحكمك.
البصائر: العراق ولعقود كان قطب الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي في منطقتنا، وقد كان المثير للعديد من التغيرات نحو التعددية والديمقراطية، وقد كانت الحوزة في داخل العراق قطباً في الدعوة للإصلاح، في رأيكم ما هي الرسالة والدور الذي يمكن أن تؤديه الحوزة في تنشيط المطالبة في التغيير والإصلاح في مجتمعاتنا ؟
سماحته: الحوزة العلمية تتميّز بثلاث مميزات رئيسة، أولاً: أنها حوزة حرة تربي رجل الدين على الحرية والتحرر، وواضح أن من لم يكن حراً في داخله ونفسه لا يستطيع أن يحمل شعار الحرية إلا كذباً وزوراً، فرجال الدين في هذه الحوزات يتربون على الحرية، ومن هنا كانوا دائماً حملة مشاعل التحرر لشعوبهم. الثاني: أن هذه الحوزات تستمد ثقافتها من تعليمات أهل البيت (عليهم السلام) ومن بصائرهم، ولا شك أن هذه التعليمات المستمدة من الوحي السماوي تحيي نفوس العباد والبلاد، وقد قال ربنا (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِله وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ). الثالث: أن هذه الحوزات مرتبطة بالناس فأبناء هذه الحوزة هم من الطبقات العادية من المجتمع، ويعرفون نبض المجتمع ويعيشون آلام الناس، ويهتمون باهتماماتهم، ومن ثم فالناس يفهمونهم وهم يفهمون تطلعات الناس، ولذلك فإن تحركهم يأخذ من الناس ليعطي للناس، فرجل الدين في هذه الحوزات مثل المحوّل يأخذ الطاقة لكي يوزعها بالسوية وبشكل صحيح، هؤلاء أيضاً يأخذون من الناس أحسن ما عندهم ويعطونهم أحسن ما يملكون. من هنا فإن رسالة الحوزة ودورها كان دائماً دوراً نشطاً في عملية الإصلاح والتغيير في هذه المجتمعات، لكن إذا تخلّفت بعض المجتمعات عن قادتها الرساليين حينئذ قد لا يمكن إجراء عملية الإصلاح، وحينئذ لا يلوم أحد إلا نفسه، لأن القائد موجود والقيادات متوفرة والإصلاح هدف هذه القيادات، ويبقى أن تكون هنالك سواعد تساعد هذه القيادات في تحقيق الإصلاح وأهداف التغيير في المجتمعات باتجاه الإصلاح. بالنسبة للعراق والمحيط الشيعي بشكل عام، نعتقد أن دور الحوزة كان وهو كائن وسيبقى دور القلب في الجسم الإنساني، حيث يدفع بالدم ليجري في العروق المختلفة، ولذلك لم يستطع طاغوت في المنطقة أن يلغي دور رجل الدين الشيعي، ربما كان يغيّبه لكن الدور كان موجوداً، كان الدور موجوداً مغطّى، وحينما يرفع الغطاء نكتشف ما لرجل الدين من قدرة على تحريك الشارع هنا وهناك، هذه القدرة كانت موجودة، وعملية التغيير كانت مستمرة ولم تأت من فراغ، وحينما أتحدث عن التغيير والإصلاح فلا أتحدث عن سلطة سياسية، إنما أتحدث عن تغيير في داخل المجتمع، هذا التغيير وهذا الإصلاح كان مستمراً دائماً وسيبقى.
الدعوة إلى الديمقراطية إلى أين؟
البصائر: القرآن الكريم والنص الديني الوارد عن الرسول وأهل البيت (عليه وعليهم الصلاة والسلام) قننّت وأصّلت للحرية وللديمقراطية، في رأيكم هل هنالك ضرورة لاستدعاء النموذج الغربي في ممارسة الديمقراطية أم أنها تجارب بشرية تقرها النصوص وتتوافق معها في المحتوى والنتائج؟
سماحته: لا شك أن للإسلام نظريته السياسية والإدارية فيما يرتبط بإدارة شؤون الحكم، وهنالك نماذج طبقت في التاريخ الإسلامي، هي في الواقع مثل المشاعل المضيئة التي تنير الدرب للسائرين في هذا المجال، مثل حكومة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وسلطة الحق التي أقامها الإمام علي (عليه السلام)، وأيضاً في التاريخ البعيد طريقة الأنبياء الذين حكموا وأقاموا سلطة مثل سليمان بن داود (عليهما السلام) وغيره، ومسألة استدعاء النموذج الغربي مسألة غير واردة لأهل المعرفة في هذا المجال، لأن النموذج الغربي يعتمد على شيء في داخله ونحن نأخذه بذلك المبدأ، وهو أنه لا مقدّس في نظرهم، فكيف يمكن أن نعتبر النموذج الغربي مقدّساً وهو يرفض القدسيات المسبقة حتى فيما يرتبط بالديانات، وهذا يعني أننا نطالب بترميم الحضارة وبديمقراطية أكثر إنسانية وأكثر عقلانية وأكثر تطبيقاً لمبادئ الديمقراطية، وكمثال على ذلك أقول: أنا من الداعين إلى أن يكون لكل شخص قد بلغ مبلغ الرجال أو بلغت مبلغ النساء رأي، ولكن الأب الذي عنده مجموعة من القصّر، ولنفترض أربعة، فإن لمثل هذا الأب خمسة آراء، رأي له وأربعة لأولاده القصّر، فإذا كان التصميم الذي يتخذه الأب مؤثراً في مستقبل أولاده فلماذا لا نعطي هذه الحق للأولاد؟. يقول النظام الغربي: إن الأولاد صغار ولا يستطيعون أن يتخذوا قرارات صائبة. وأقول: هذا صحيح، ولكن لا يجوز أن تتخذ لهم أنت قرارات، فحينما يفتحون عيونهم بعد أن يكبروا يجدون أنفسهم مقيدين بقرارات لم يكن لهم دخل فيها ولم يكن للحريصين على مصالحهم أيضاً دخل، وحق الانتخاب مثل حق التصويت، فإذا كان هنالك طفل صغير يملك مالاً، فهو يملكه في الحقيقة ولكن لا يستطيع التصرّف فيه، يترك ذلك الأمر لوليه، كذلك فإن حق الانتخاب حق للصغير، ولا يملك التصرّف إلا وليه. وبكلمة فإننا في المشروع الديمقراطي متقدمون على النظام الغربي، ونؤمن بضرورة تطوير هذا النظام باتجاه الأفضل والأصح.
البصائر: هنا العديد من الدعاة الذين يهدفون إلى العمل التغييري والإصلاحي وتتفاوت نظرتهم إلى كيفية التغيير، في رأيكم من أين يبدأ الإصلاح والتغيير في المجتمعات؟
سماحته: أساساً التغيير ليس خارجياً إنما انعكاساته هي التي تكون خارجية، التغيير يبدأ من داخل النفوس، فحينما تتغيّر النفوس تتغيّر تصرفات الناس، وحينما تتغيّر تصرفاتهم تتغير النتائج التي تترتب على ذلك، ومن هنا فإن الإصلاح والتغيير في مجتمعاتنا يبدأ من تغيير نفوس أبنائنا وتغيير نظرتهم إلى أنفسهم وإلى الحياة وإلى الوجود ككل. الإصلاح الحقيقي هو الذي يعتمد على المبادئ والقيم والمثل التي جاء بها الأنبياء، وأولها أن نبدأ بأنفسنا و ?إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ?[2]، وكمثال على ذلك، لا يمكن أن يصدر قرار شجاع من رجل تَضَمَّنتَ جوانبه قلباً خائفاً، لأن الشجاعة ليست في قرارات تصدر من شخص، إنما الشجاعة في تلك النيات والإرادة التي لا تُرى بالعين ولا يحس بها أحد، وكذلك الأمر فيما يرتبط بالكرم والعطاء والإيمان والإصلاح، فلا يمكن لمن هو ليس بصالح أن يكون عامل إصلاح في المجتمع.
البصائر: كيف يمكن أن نعزّز ثقافة التغيير والإصلاح في عقلية الأمة وما هي آليات وطرق تعزيز هذه الثقافة؟
سماحته: الوعي بالذات وفهم القدرات الكامنة في الفرد، وإثارة الكوامن الخيرة فيه، وجعل البصيرة في نفسه، أي تزويده بتلك البصائر الحقة التي تفتح له الآفاق، هذه هي وسائل التغيير والإصلاح في عقلية الأفراد، ومن ثم في عقلية الأمم.إن أمة لا تعرف قدراتها وطاقاتها ولا تستثار عندها الكوامن الخيرة ولا تثق بنفسها ولا تملك البصيرة في وعيها لا يمكن أن تتغير للأفضل وخصوصاً فيما يرتبط بالبصيرة، لأن البصيرة للنفس مثل امتلاك نور في الظلام، فلو كنت تمشي في بحر من الظلمات وكانت في يدك شمعة وكبريت ولكن لم تشعل تلك الشمعة ولم تستخدم ذلك الكبريت لن ترى شيئاً إلا الظلمة.البصائر القرآنية تمثل النور الذي يبدد الظلام ومن دونها قد يجرب الإنسان حظه على قاعدة التجربة والخطأ، وهو طريق طويل، قد يصل إلى نتائج وقد يصاب باليأس ويعود إلى الوراء، ومن أهم البصائر المطلوبة، بصيرة أن التغيير ليس سهلاً وأن كل من يبدأ التغيير لابد أن يقف أمام شهوات نفسه ورغباتها، وأن يتحمّل المرور في عنق الزجاجة من دون أن يفكّر في العودة إلى داخلها، فربنا عز وجل حينما يخلق الإنسان في رحم الأم لا يمكن أن يخرجه إلى الحياة إلا بعد المرور بعملية صعبة هي الولادة، تكوّن الجنين يتم بسهولة لكن ولادته في الحياة تمر بنفق فيه الدم وفيه الدمع وفيه الألم. وأية أمة لا تريد أن تدفع ثمناً لإصلاحها ولتغييرها لا يمكن أن تحصل على ذلك. إن سبب فشل الكثيرين في الحياة أنهم كانوا يريدون أن يحصلوا على المثمن من دون أن يدفعوا الثمن، وسنة الله عز وجل تقوم على عكس ذلك، فربنا لا يسلّف النصر لأحد، إنما يعطيه إياه نتيجة جهود يبذلها، حتى فيما يرتبط بالأنبياء (إن تنصروا الله) كلمة تتقدّم على ينصركم، ومن يريد أن يحصل على النصر ثم يعطي الثمن عليه فهو مجرد حالم.
البصائر: ما هي التأثيرات التي يمكن أن تتركها ثقافة التغيير والإصلاح داخل المجتمعات العربية والإسلامية؟
سماحته:عندما يتحوّل الفرد من جبان إلى شجاع، ومن بخيل إلى كريم، ومن منافق إلى مؤمن، ومن ذي وجهين إلى مخلص، فهو حتماً سيترك الآثار الإيجابية في محيطه وعند أقرب الناس إليه، وهكذا فإن الإصلاح عدوى، تماماً كما أن الإفساد كذلك. وتأثيرات ثقافة التغيير كبيرة وكثيرة، لأنها تدفع بالأمة إلى أن تصلح نفسها بنفسها كالماء الجاري يطهر نفسه بنفسه، وحينئذ تستفيد الأمة من أخطائها، أما من دون ثقافة التغيير فالأخطاء تتراكم، وبدل أن تتجاوزها الأمة، فهي تقف عندها، وتتكلّس إرادتها عند الفساد وقصارى ما تفعله عندئذ أن تقيم النائحة على نفسها، نحن دائماً نقرأ في الصحافة، ونسمع في الإذاعات، ونرى في التلفزيونات، كيف أن أمتنا تعي تماماً الفساد العريض الذي ينخر في مختلف جوانب الحياة، خاصة فيما يرتبط بقمّة الهرم (السلطة)، لكن الأمة تكتفي بالتباكي على واقعها فمع أنها تفهم المشكلة، لكنها لا تملك الإرادة أو الآلية لمعالجتها.
البصائر: دعوات التغيير والإصلاح فرضت نفسها إلى درجة أن بعض النخب السياسية أصبحت تركب هذه الموجه رغم أنها حكمت شعوبها عقوداً عديدة دون أن تفكر في التغيير والإصلاح، بل مارست القمع ضد تلك الدعوات في الماضي، في رأيكم هل يمكن للنخب السياسية الحاكمة أن تحقق إنجازات في مسائل التغيير والإصلاح، وما هي التأثيرات المحتملة لهذه الدعوات في مستقبل النظم السياسية الحاكمة؟
سماحته: نعم يمكن للنخب السياسية الحاكمة أن تكون عاملاً من عوامل التغيير والإصلاح بشرط أن تتوب من ماضيها، وأن تتنازل عن امتيازاتها، وأن تقبل بأن تترك مواقعها للأكفاء، في غير هذه الصورة فإن مساهمة النخب السياسية في التغيير تثير الناس من نغمة ضدهم. أما ركوب الموجه فإنه قد يكون لفترة من الزمن، فالمثل يقول: (إن باستطاعتك أن تخدع شخصاً واحدة لمرة واحدة في صفقة واحدة، لكنك لا تستطيع أن تخدع كل الناس بشكل دائم وفي كل الصفقات) وهو مثل صحيح. والنخب الحاكمة لا يمكن أن تخدع الناس بمجرد الشعارات وبمجرد الادعاءات، لأن ضمائر الناس أكثر شفافية مما يظنّه الحاكم.
البصائر: التغيرات مهما كانت صغيرة أو في اتجاه محدود إلا أنها تُلقي بظلال على المسارات الأخرى، في رأيكم ما هي تأثيرات ثقافة التغيير والإصلاح السائدة في العالم العربي والإسلامي، وكيف تنظرون لمستقبل ومسار العمل الديني في ضوء هذه الثقافة المتحركة المفعمة بالطموح؟
سماحته: إذا أخذنا في الحسبان أن الوحي يسوق العقل، وأن مَثَلَه كمن صعد على قمّة الجبل فهو يرى الطرفين، بينما العقل هو مِثْل إنسان لا يزال يحاول تسلّق الجبل حتى يصل، إذا أخذنا ذلك بعين الاعتبار فإن العمل الديني المعتمد على بصائر الوحي له قصب السبق، بل هو الذي يمسك براية الإصلاح في المجتمعات، والمخلصون من الدينيين - في الواقع - هم سيكونون رواد الإصلاح والمؤثرين الحقيقيين في المجتمع. وهنا ملاحظة يجب أخذها بعين الاعتبار وهي أن التغييرات يجب أن تشمل الآليات التغييرية نفسها أيضاً، أي لابد أن يصلح الإصلاحيون أنفسهم على الدوام، فلا يقولن قائل أنا من الإصلاحيين إذن أنا على حق، أنت من الإصلاحيين يعني يجب أن يكون الإصلاح جزءاً من برنامجك اليومي، ويدخل في دمك بحيث تصلح نفسك على الدوام، تماماً كما أننا نغسل أنفسنا من الدرن، ولا يكفي أننا كنا في يوم من الأيام نظيفين، بل لا بد أن نستمر في غسل أجسامنا، حتى تبقى النظافة عندنا، وإلا فسوف نخسر النظافة ونحن نظن أننا نملكها.
|
|