قائد ثورة العشرين. . الأبوّة مع الشعب والحزم مع أعداء الدين
|
*اعداد / عبد الجبار محمد
إن عظمة الأمم بعظمة رجالها، فالأمم الحية هي تلك الأمم التي تنجب الأفذاذ والقادة الضاربين في التاريخ أروع الأمثلة. علم جم ومواقف صلبة وعقيدة راسخة وأخلاق عالية وقيادة حكيمة وإصرار مع التوكل المطلق على الله في بلوغ الأهداف مهما كلف ذلك، من أهم الشروط الواجب توفرها في كل قائد تاريخي وهذا ما نلمسه عند إطلاعنا على سيرة حياة علم من أعلام امتنا الإسلامية وجهبذ من جهابذتها قل نظيره، برز وذاع صيته إبان أصعب الظروف التي مر بها العراق أثناء الاحتلال البريطاني الغاشم في بداية القرن الماضي. انه المرجع الامام الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين المجيدة.
القائد الناجح
هو الشيخ محمد تقي بن الميرزا محب علي بن الميرزا محمد علي المشهور بكلشن الشيرازي الحائري، ولد في شيراز وهاجر إلى العراق شاباً وأقام في كربلاء وهاجر إلى سامراء وتتلمذ على يد الميرزا السيد محمد حسن الشيرازي الكبير وغرف من منهل علمه الجم، ولما توفي السيد الشيرازي سنة 1312 هـ اتجهت إليه أنظار الناس للزعامة الدينية فهاجر إلى كربلاء وأقام فيها عالماً موجهاً ومرجعاً.
ابتلي العراق في عصره بالاحتلال البريطاني الذي تسلل الى البلاد الاسلامية بعد ان دبّ الضعف الهزال في الدولة العثمانية، وعبثاً حاول الانكليز بمكرهم وسياساتهم ان يصورا انفسهم محررين ومنقذين مما كان يعانيه العراقيون من اضطهاد وفوضى في العهد العثماني، لأنهم احفاد أولئك الصليبيين الذين ذاقوا مرارة الهزيمة على يد المسلمين، لذا مارسوا الكثير من الجرائم والاعتداءات على حقوق وكرامات المجتمع العراقي، وفي ليلة النصف من شعبان سنة 1338 هـ ليلة زيارة الإمام الحسين عليه السلام حيث كانت كربلاء تغصّ بالزائرين اجتمع وجوه ورؤساء العشائر في مجلس الميرزا وأظهروا ولاءهم لدينهم و وطنهم واستفتوه في إعلان الثورة ضد الإنكليز فتردد الميرزا في الجواب وقال لهم ما نصّه (إن الحمل لثقيل وأخشى أن لا تكون للعشائر قابلية المحاربة مع الجيوش المحتلة) فطمأنه زعماء العشائر بأن فيهم الكفاءة الكاملة ثم عاد أليهم قائلاً: (أخشى أن يختل النظام ويفقد الأمن وان الأمن أهم من الثورة وأوجب منها) فأجابوه بأن لهم القابلية على حفظ الأمن وان الثورة لابد منها فشكرهم وقال : (إذا كانت هذه نواياكم وهذه تعهداتكم فالله عونكم).
ومن مواقفه المشرفة عندما أراد الإنكليز أن يكرهوا العراقيين على انتخاب (السير برسي كوكس) المندوب السامي البريطاني ليكون رئيساً لحكومة العراق الجديدة، علم الميرزا بهذه النوايا وأصدر فتواه القائلة (ليس لأحد من المسلمين أن ينتخب ويختار غير المسلم للإمارة والسلطنة على المسلمين). ولما عرف المسلمون واجبهم الشرعي في الدفاع عن وطنهم ضد الإنكليز انتفضوا بوجه السلطة الجائرة وحاربوهم بأسلحتهم البسيطة المعروفة في ثورة العشرين، والتي تحولت فيما بعد أهازيجاً وشعارات للثائرين، مثل (الطوب أحسن لو مكوار).
العطاء للمسيء!
كان الامام الراحل أحد مراجع الدين المعروفين بالورع والتقوى والاخلاق العالية، ومن جملة فتاواه عدم جواز استئجار غير العادل لقضاء ما فات الميت من صلاة وصيام وإن كان ثقة، بل يشترط فيه العدالة. ولا يخفى أنّ الفقهاء يختلفون في هذه المسألة، فبعض لا يشترط العدالة ويرى أنّ مجرّد الثقة بأنّ الشخص سيؤدّي هذه الصلوات والعبادات يكفي ولا يلزم أن يكون عادلاً.
ينقل المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (حفظه الله) عن المرحوم الوالد (رضوان الله تعالى عليه) أنّ أحد المؤمنين جاءه يوماً وشكا عنده الفقر والعسر، وطلب منه أن يحوّل إليه قضاء صلاة أو صوم عن بعض الأموات ولكن الشيخ الميرزا صادف أنه لم يكن آنذاك عنده من العبادات الاستيجارية شيء، فاعتذر وقال: لا يوجد عندي الآن. ولما كان الرجل السائل – يقول المرجع الشيرازي- قد أضرّ به الفقر وضغط عليه لم يتمالك نفسه، فأخذ يسبّ الشيخ...!! وذلك أمام تلامذته.
وبعد بضعة أيام جاءوا للشيخ بصلاة وصيام قضاء عن ميت، وهنا بادر الشيخ الميرزا و وجّه أحد أفراد حاشيته ليذهب بذلك المال إلى ذلك الرجل الذي سبّه لاستئجاره في قضاء هذه الصلوات! هنا تعجّب هذا الشخص الذي هو من أصحاب الشيخ وحاشيته وقال: شيخنا... ألستم تشترطون العدالة فيمَن يُستأجر للقضاء عن الميّت؟ قال: بلى، فقال: ولكن هذا الرجل على فرض أنّه كان عادلاً ولكنّه فقد العدالة عندما سبّكم، وكلنا نعلم أنّ سبّ المؤمن حرام، وارتكاب الحرام مسقط للعدالة. ولا شكّ أنّه يصدق على الشيخ أنّه مؤمن، فضلاً عن أنّه مرجع تقليد ومضرب المثل في الورع والتقوى. فتبسّم الشيخ ثم قال: سبّ الفقراء للعلماء غير مسقط للعدالة! اذهب وأعطه المال؛ فإنّه لم يكن ملتفتاً حينما سبّ.
نعم... هكذا يكون عالم الدين الذي يحبه الناس ويلتفون حوله، وهكذا تكون القيادة الربانية التي إن نطقت عززت اركان الظلم والطغيان والديكتاتورية حتى وان امتلكت ما في الارض جميعاً.
استشهد الامام الشيرازي في كربلاء المقدسة في 13 ذي الحجة سنة 1338 هـ الموافق لشهر آب 1920م اثر سمّ دُس إليه من قبل عملاء للمحتل يومها وصار لوفاته دوي في العراق والعالم الإسلامي وتم تشيعه ودفنه في حرم سيد الشهداء عليه السلام وما يزال مرقده الشريف يزار بالقرب من باب (قاضي الحاجات).
|
|