الصدق والنظام السياسي
|
محمد علي
في طريق الوصول إلى حالة من الاستقرار والأمن الاجتماعي يمكن اعتبار البناء الاجتماعي من التحديات الصعبة التي تواجه الباحثين والطامحين للوصول إلى ذلك، حيث أن الحياة الاجتماعية بما فيها من تعقيدات وتباينات واختلافات بين مختلف الشرائح الاجتماعية بحاجة دائمة إلى أن تكون محل دراسة وبحث وتحليل علمي من أجل معرفة الحقائق والعوامل التي تساهم في إيجاد حالة الاستقرار والأمن وترسيخها كقيم أخلاقية في نفوس الناس ومن جانب آخر لا بد أيضاً من فهم المعوقات التي تقف حائلاً دون الوصول إلى ذلك والعمل على تلافي وجودها.
ولأن الاستقرار الاجتماعي له دور كبير في نهضة المجتمعات فقد أولت الدول المتقدمة اهتماماً دائماً بهذا الجانب وجعلته في مقدمة الأولويات التي تبنى عليها سياسات تلك الدول ونظمها وقوانينها الداخلية وعلاقاتها الخارجية. ولكن الاستقرار الاجتماعي لا يأتي من خلال الفراغ أو مجرد الإدعاءات الإعلامية التي لا تعكس حقيقة الواقع وإنما هو نتاج لنمط من التفكير يقوم على أسس أخلاقية واجتماعية وسياسية تشكل فيما بينها منظومة من الأصول التي يتشكل منها النظام السياسي وهو ما يوجد مساحة من التمايز اليوم بين أنظمة متقدمة وأخرى غير ذلك، من خلال السلوك والأداء الذي ينعكس بطبيعة الحال على عوامل التنمية والنهضة في كل بلد.
ولا شك أن ديننا الإسلامي ليس بعيداً عن هذا المجال وهو دين شامل متكامل من خلال قول الله عز وجل في القرآن: "وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَـؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ" حيث دعت تعاليم الإسلام لصياغة واقع اجتماعي على أسس أخلاقية راقية يستطيع الناس من خلالها أن يتكاملوا مع بعضهم البعض على مبدأ الخير والعمل الصالح.
ومن الأسس التي دعا الإسلام إلى تبنيها والعمل بها من أجل صياغة واقع اجتماعي سياسي متين، الصدق في كل شيء، لأن الحياة قائمة على الصدق وبدونه نفقد كل هذا الجمال الموجود في حياتنا فلا معنى لحياة في ظل الكذب والزيف والخداع، ولذا دعا القرآن الكريم لتبني الصدق في خطاب جميل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ". ويتحدث العالم اليوم عن الحاجة إلى الشفافية والوضوح في السياسات على كل صعيد بعيداً عن التحريف والتزوير لأن الصدق من شأنه أن يعزز الثقة بين الناس لأنه يكشف عن الحقيقة وهي بدورها تمثل الحق الذي يتمنى كل أحد أن يكون في صفه وكما قال الإمام علي عليه السلام: "الحق منجاة لكل عامل وحجة لكل قائل".
إن ما نراه في واقعنا السياسي من حالة "التكاذب السياسي" يمكن أن يخلق حالة من الضياع لدى الناس وفي ظل عدم الكشف عن حقائق ترتبط بالتجاوزات والفساد والتخبط على صعيد سياسي وأمني أو إداري سوف يشعر الناس بعدم وجود مصداقية وهذا ما يتسبب في اهتزاز مفهوم الوطن والدولة عند البعض لأنه قد يشعر بأن الدولة التي من المفترض فيها أن تحميه تقوم بالتعمية عليه أو تتوسل بالكذب من أجل خداعه وقد يكون الأمر أكثر خطورة حينما تستخدم التبريرات من قبل المتصدين في الشأن السياسي أو الاجتماعي للتعمية على الحقائق وهذا ما يسبب خللاً كبيراً في صياغة الوعي لدى طائفة من الناس تجد نفسها بين أحد أمرين فإما أن ترد على هذا النوع من التبريرات غير المنطقية فتجد نفسها متهمة في الوقوف في وجه من تتبع وإما أن تخضع لتلك التبريرات فتبقى "مستغفلة" وفي كلا الأمرين مشكلة.
إن اعتماد مبدأ سيادة التكاذب السياسي واعتبار البعض له نوعا من "الشطارة" السياسية أمر خطر من شأنه أن يربك البناء الاجتماعي ويزرع البلبلة والتضليل في النفوس، ويحول أي مجتمع إلى مستنقع آسن تنمو فيه كل الظواهر السلبية التي تعمل على قلب الحقائق فتجعل من المجرم بريئاً وتجعل البريء مجرماً، وهكذا على اكثر من صعيد.
إن من الخطأ أن يغالط الإنسان نفسه في الحديث بما لا يؤمن به أو يتفق معه، خاصة عندما يكون في موقع متقدم في الشأن السياسي لأن ذلك من شانه أن ينعكس على المجتمع علمة وخاصة النشء الجديد والأجيال الشابة ولذلك فالجميع يتحمل المسؤولية كل في موقعه من اجل أن نبني وطناً قائماً على الصدق والحق والعدل بعيداً عن الخداع والتحريف والكذب.
|
|