معرفة الله حكمة الحياة
|
*كريم الموسوي
"اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم" (البقرة /255).
في كتاب الله المجيد ناك آيات كريمة تعد من الغرر التي تتجلى وكأنها الشمس في رابعة النهار، ومنها هذه الآية التي سُميت بـ (آية الكرسي) التي وردت روايات عديدة في فضائلها وكراماتها. ولعل السبب في ذلك أنها تحوي أكبر عدد من أسماء الله الحسنى، حتى أنه روي أن من قرأها مرة وكل الله به ملائكة يحفظونه، وكلما تضاعف عدد القراءة كلما تضاعف عدد الملائكة الموكلين، ولكن المرء إذا قرأها خمس مرات أمر الله هؤلاء الملائكة بالتنحي لأنه سيحفظه مباشرة. ويبدو أن السبب الأكثر أهمية في ذلك كله أن هذه الأية المباركة مختصة بالحديث عن الرب العلي العظيم. وكما يبدو الفارق بينهما وبين كثير من الآيات التي تحرك كل واحد منها، أو أن بعض الآيات تذكرنا بسنن الله في التاريخ وطبيعة الحركة الاجتماعية الحاكمة أو المحكومة في السيرة البشرية عموماً. والقارئ لمثل هذه الآيات من كتاب الله يجد نفسه أمام تفاصيل علم عظيم، وأمام بحر لايتناهى من المعارف والحقائق، رغم وجود القدرة لديه على استيعاب بعض هذه المعارف. ولكن حينما يذكرنا ربنا سبحانه وتعالى بنفسه، فإننا نلمس أن الأمر قد اختلف كليا، وأننا أمام ذكرى جديدة وعلم متفاوت، وأمام معرفة من نوع آخر.. يهتز له الوجدان والعقل، ذلك لأن عقول الناس قد يستحيل عليها الرقي الى مستوى معرفة الرب عزوجل، في قبالة تمكنها من استيعاب حقائق مايحتاجه الانسان من المخلوقات والموجودات الأخرى.
وفي عالم معرفة الرب يجد الانسان نفسه بحاجة الى قفزات واسعة من التطور، والى ارتفاع هائل ليصل الى مستوى رفيع جداً حتى يستوعب حقائق أسماء الله الحسنى ومعرفة الرب عن طريقها.
ومن طبيعة فكر الانسان أنه محاط كله بعالم المخلوقات، وإذا أراد الارتفاع الى مستوى معرفة الخالق كان بحاجة الى نقلة نوعية، والى نمط جديد من التفكير، وقد كانت مشكلة الناس جميعا انهم حينما ارادوا معرفة الله سبحانه وتعالى قاسوا معرفة الله بمعرفة مخلوقاته، ظن الواحد منهم أنه كما يستطيع حل مسألة رياضية أو فيزيائية أو يتعرف على منطقة جغرافية أو جسم محدود أو يطلع على علم تاريخي معلوم، كذلك سيستطيع ـ بوسائله البدائية ـ أن يصل الى معرفة الله عزوجل، كلا؛ (من نصب نفسه للقياس لم يزل دهره في التباس) كما قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، وإن ربنا سبحانه لايقاس بشيء من الأشياء. فلا يقاس الخالق بمخلوق؛ فالخالق صمد، والمخلوق حادث، والخالق حي لايزال، بينما المخلوق ميت بذاته.
وينبغي معرفة ربنا تبارك وتعالى في كل شيء حتى لا نجهله، ولذلك كانت الدنيا المدرسة لمعرفة الله، نظراً الى أن الدنيا هي فرصتنا الوحيدة والجدير بنا استغلالها قبل الممات، حيث تقطع الآمال وتبدأ مرحلة الحساب والثواب أو العقاب.. ولذلك تجد أن أكثر كلمات القرآن تكراراً هي كلمة اسم الجلالة أو الكلمات التي تدل على أسماء الله الحسنى.
ثم ان الله خلق العقل و وضعه في الانسان ليدله عليه جلّ وعلا. ولكن معرفة الله بوسيلة العقل لها أساسها ومنهجها، حتى يصل الانسان الى باب الرحمة الإلهية، فينتهي بذلك دور العقل، ليحل دور تجلي نور الله على القلب فيزداد صفاءً وضياءً، وينطلق به الى مزيد من المعرفة واليقين. فمن الخطل أن يأخذ المرء مصباحاً ليرى به ضوء الشمس أو قرصها، كذلك الله سبحانه وتعالى الذي هو أكبر وأعظم دلالة وأكثر هيمنة من الشمس ونورها، فالله هو نور السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن وهو رب العرش العظيم.
وإذا كان مقدراً للشمس أن ينطفئ نورها، فإن الله هو النور وهو الخالق الرزاق المصور المقدر المهيمن، ولولاه لساخ الوجود بمن فيه. إن بيننا وبين الله سبحانه حجب الظلمات، كالجهل والغفلة والشهوة والذنب والعصبية والحمية والغرور وماأشبه... وبيننا وبين الله تعالى حجب النور، كالعلم والعقل، ومثل هذه الحجب لابد من اكتسابها حتى يخرق البصر أشكالها وأنواعها فيصل الى معدن العظمة.
ولذلك ؛ فأنت تقرأ قوله تبارك اسمه في آية الكرسي الشريفة: "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو" فأول ما تفضل علينا ربنا أنه علمنا نفي الشريك عنه، وهذا الشريك لاينفى من الله إلا إذا أخرجناه عن حد التشبيه والتعطيل، لأن كل تشبيه يجعل الله قرين خلقه، وهو خلوّ عن خلقه وخلقه خلوّ عنه، وهو المنزّه عن كل حد أو عجز. أما القلب المتعلق بشهوات الدنيا ويخاف الطغاة، فهو لايصلح لأن يكون وعاءً لمعرفة الله سبحانه وتعالى. "اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُو" فهو الحي، في حين أن كل شيء ميت، قد سبقه الموت وسيلحقه في نهاية المطاف. وهو تعالى الحي القيوم القائم بذاته، وغير قائم به.
"لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ" لأنه هو خالق السِنة والنوم وجعلهما جزءاً من وجود مخلوقاته. ولما كان الله حياً قيوماً، كان له ما في السماوات والأرض، فهما مملوكتان له دائماً وأبداً، ولا يمكنهما الخروج عن حاكميته المطلقة. "مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ" فحتى الشفاعة لاتكون لأحد حتى يأذن الله سبحانه وتعالى له. "يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ".
من روائع ما يروى أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وآلة وسلم أن يأذن له بمعصية الله، فأذن له الرسول الأكرم بذلك بشرط أن يبحث له عن مكان أو زمان لايراه الله فيهما وهو يعصيه، فتراجع الرجل تائباً عما فكر به وأراد الإقدام عليه. "وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ" فهو يعلمهم وهم لايعلمونه بذات. "إِلاَّ بِمَا شَاء" أي على قدر ما أراد الله أن يعلمهم بأسمائه ومشيئته وقوانينه. "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ" فالكرسي رمز السلطة والقدرة والإرادة، وقد وسعت هذه جميع السماوات والأرض باعتباره الخالق لهما والمهيمن دائماً وأبداً عليهما، إذ أن قدرة الله تكمن وتظهر في كل ذرة من ذرات الوجود. "وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا" ولأن السماوات والأرض كانتا قائمتين بقدرة الله لا بذاتهما، فهما لاتتعبانه أو ترهقانه في أمر حفظهما. "وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيم" فهو العلي المسيطر والعظيم بجبروته، علواً أبداً وعظمة دائمة لاتقهر ولاتزال.
لاينبغي أن نتصور معرفة الله أمراً مستحيلاً، بل هي ممكنة وسهلة في حال أسقطنا الحجب، لأن الله تعالى قريب يستجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ليس بينه وبين العباد سوى فريضة الانصياع لأوامره والإيمان اللازم به. وقد يتمثل هذا القرب الإلهي ويتأكد عبر وجود إرادة الله الدائمة في ذرة ذرة من الوجود، بدءاً باستمرار الحياة في خلايا الجسم الإنساني بإذن الله، وانتهاءً باستمرار وجود المخلوقات الأخرى. ولعل الانسان يزداد علماً بالله كلما تعرف الى حقيقة مخلوقاته والقوانين الإلهيه المتحكمة والفاعلة فيها.
|
|