رثاء المدن في الشعر العربي
بغداد انموذجا
|
علي حسين يوسف
أصبح لشعر رثاء المدن أهمية خاصة لدى الباحثين والدارسين لما يحمله من تصوير صادق للواقع ونقل أمين للأحداث إذ لم يقتصر هذا الشعر على فئة معينة من الشعراء بل انه كان شائعا بين مختلف طبقات الشعب يتخذونه وسيلة للتعبير عما يعيشونه من واقع إضافة الى اشتراك كبار الشعراء المشهورين في ذلك الوقت في نقل هذا الواقع فقد برز اسم ابن الرومي في رثاء البصرة كما برز اسم ابي البقاء الرندي في رثاء الاندلس وغيرهم وقد برزت أسماء كثيرة في رثاء بغداد بعد سقوط الدولة العباسية ودخول هولاكو اليها صوروا الخراب والدمار الذي لحقها والقتل والتشريد الذي أصاب أهلها. ولا نغالي اذا قلنا ان القرن السابع الهجري كان من أسوأ القرون التي عاشتها الأمة الاسلامية حيث كان الخلفاء ألعوبة بيد الأتراك أما الشعب فكان يعاني حالة الفوضى والاضطراب وبلغت هذه الحالة أوجها في عهد المستعصم آخر الخلفاء العباسيين الذي كان ضعيف الرأي مسلوب الإرادة منهمكما باللذات واللهو وسماع الأغاني ولا يكاد مجلسه يخلو من معاقرة الخمر ساعة واحدة وقد حذره الناس من مغبة أفعاله وعاقبة التمادي في استهتاره وغيه والمصير الأسود الذي ينتظر الشعب ان لم يبادر بإعداد جيش قوي وتهيئته للدفاع عن بغداد وإصلاح الأوضاع الداخلية وتقويمها لصد الهجوم المرتقب من قبل هولاكو الذي كان يواصل زحفه نحو البلاد الاسلامية فاحتل في طريقه بلاد فارس وفتك بأهلها. وكثرت الرقاع من الناس وفيها أنواع التحذير وكتبت فيها الأشعار وألقيت في دار باب الخلافة منها:
قل للخليفةِ مهلا أتاك ما لا تحبُ
ها قد دهتكَ فنون من المصائب غربُ
فانهض بعزم وإلا غشاك ويلٌ وحربُ
كسرٌ وهتكٌ وأسر ضربٌ ونهبٌ وسلبُ
ولم تنفع كثرة الرقاع واستنكار الناس أفعال الخليفة الذي ظل سادرا في فسقه وفجوره حتى تحوّل هذا الغيظ المكبوت الى غضب عارم وسخط شعبي بلسان مكشوف وانطلقت ألسنة الشعراء تكشف هذا الواقع الفاسد والمصائب التي تنتظره وكان أجرأ شاعر في هذا الميدان هو مجد الدين النشابي الذي ألقى قصيدة طويلة بهذا الصدد مطلعها:
يا سائلي ولمحضِ الحقِ يرتادُ أصغ فعنديَ نشدانٌ وانشادُ
وتعدّ هذه القصيدة من أهم القصائد التي قيلت في هذا الموضوع وأبرزها وقد اشار فيها الشاعر الى اضطراب الأوضاع وفسادها واختلال الإدارة ونظام المصادرة والتعدّي على الناس والقضاء على الحريات ومحو العدل والمساواة كما انتقد فيها بشدة الوزراء ورجال الخليفة المنشغلين بعبثهم وفجورهم الغارقين في غيهم ومجونهم كما فضح الشاعر في قصيدته وعّاظ السلاطين من المتقمصين بلباس رجال الدين الذين تركوا ما أوصاهم به الله وما أوجب عليهم من قول الحق وفي آخر هذه القصيدة الطويلة تمنى الشاعر الموت قبل رؤية المسلمين وقد حل بهم مصاب عظيم فقال:
اين المنية مني كي تساورني فللمنية اصدارٌ وايرادُ
من قبل واقعةٍ شنعاء مظلمةٍ يشيبُ من هولها طفلٌ واكبادُ
ولكن كل هذه القصائد والتحذيرات لم تجحد لها آذان صاغية فكانت صيحة في واد او نفخة في رماد وبقي الخليفة واتباعه على تهتكهم وفسادهم فزحف هولاكو نحو بغداد بمائتي ألف محارب ودخل بغداد سنة 656هـ وقتل الخليفة وأناسا كثيرين ولقي الناس من جنده الويلات وحل الدمار والفتك والهوان لقد كانت النكبة التي حلّت ببغداد عظيمة والفاجعة التي داهمتها كبيرة وقد صورت قصائد الشعراء الحزينة هذه الفاجعة الأليمة بكل تفاصيلها فمن الشعراء الذين شهدوا هذه النكبة الشاعر تقي الدين اسماعيل بن ابي اليسر التنوخي فبكى بغداد بقصيدة طويلة مطلعها:
لسائل الدمعِ عن بغداد إخبارُ فما وقوفكَ، والأحباب قد ساروا؟
لقد كانت هذه القصيدة التراجيدية عبارة عن آهة نابعة من القلب المفطور من تلك الأحداث فقد رأى الشاعر النساء الشريفات اللواتي دفعن الى الموت وهن في أزرى حالة ورفع يده الى السماء راجيا من الله تعالى ان يسلط على الأعداء عذابه ونقمته:
ناديت، والسبي مهتوك يجرهمُ الى السفاحِ من الأعداء دعارُ
وهم يساقون للموت الذي شهدوا النار يا رب نصلاها ولا العارُ
ومن الشعراء الذين شهدوا هذه النكبة ايضا سعدي الشيرازي الذي كتب قصيدة قاربت المائة بيت باللغة العربية رثى بها بغداد وبكاها بدموع غزار يقول فيها:
نسيم صبا بغداد بعد خرابها تمنّيت لو كانت تمر على قبري
لان هلاك النفس عند أولي النهى أحبُ له من عيشِ منقبض الصدرِ
ولعل اكثر الشعراء تألّما هذا الواقع المؤلم واكثرهم تفجعا له حيث لم يستطع شاعر ان يصل الى ما وصل اليه من بكاء على بغداد هو الشاعر شمس الدين محمد بن احمد بن عبد الله الهاشمي الكوفي الذي سماه الشيخ محمد رضا الشبيبي في كتابه عن ابن الفوطي (شاعر مأساة بغداد) فقد عبر هذا الشاعر عن هذه الحادثة الموجعة بقصائد محزنة كثيرة بكى فيها المدينة المنكوبة ووصف الأعمال الشنيعة التي قام بها الغزاة بحق الناس الأبرياء كما رثى الأهل وندب الأحباب وأبّن الأصحاب في قصائد تفيض بالدمع والأسى وتأتي نونيته العصماء في مقدمة رثائياته التي عبرت عن صدق مشاعره الحزينة تجاه المدينة المفجوعة فتمنى الموت على البقاء بعد هذه الحادثة فقال:
ان لم تقّرح أدمعي أجفاني من بعد بُعدهم فما أجفاني
إنسان عيني مذ تناءت داركم ما راقهُ نظر الى انسانِ
يا ليتني قد متّ قبل فراقكم ولساعة التوديع لا أحياني
مالي وللأيام شتت صرفها حالي وخلّاني بلا خلّانِ
ويطوف الشاعر بهذه المدينة فيشاهد ما عملته أيدي الغزاة بها من الدمار والتهديم والحرق وقد خلت المنازل من أهلها فيقول:
ما للمنازل أصبحت لا أهلها أهلي، ولا جيرانها جيراني
وحياتكم ما حلّها من بعدكم غير البلى والهدم والنيران
ويسترسل الشاعر على هذه الوتيرة في كل قصائده الرثائية يقول في ميميته:
عندي لأجل فراقكم آلام فألامَ أعذل فيكم وألامُ
من كان مثلي للحبيب مفارقاً لا تعذلوه فالكلام كلام
نعم المساعد دمعي الجاري على خديَّ إلا انه تمام
قف في ديار الظاعنين ونادها (يا دار ما فعلت بكِ الأيام)
ويتجرّع لوعة الأسى ومرارة الحرمان قائلا:
وحياتكم اني على عهد الهوى باقٍ ولم يخفر لديّ ذِمامُ
فدمي حلال ان أردت سواكم والعيش بعدكم عليّ حرامُ
ياليت شعري كيف حال أحبتي وبأي أرضٍ خيّموا وأقاموا
مالي أنيس غير بيت قاله صب رمته من الفراق سهام
(والله ما اخترت الفراق وإنما حكمت عليّ بذلك الأيامُ)
وحينما كان وطء الضيم والحيف عظيما على شاعرنا احتمى برسول الله (ص) ووجده خير عزاء لنفسه المكلومة وشفاء لها فقال من قصيدة طويلة أربت على المائة بيت:
جار الزمانُ على قلبي الحزين ولو لا مدحي المصطفى لم يبق لي رمق
المجتبى خير خلق الله كلهم ومن تكمّل فيه الخلقُ والخُلُقُ
صلى الإله على المختار ما طلعت شمسٌ وأشرق نجمٌ او دجى غسقُ
وهناك شعراء آخرون ذرفوا قصائدهم دموعا على بغداد ولكن يبقى أبرزهم هو شمس الدين الكوفي فجاءت قصائدهم صور حية عن ذلك الواقع الأليم بعد ان عاصروا أحلك فترة مرّت بها الأمة الاسلامية وقد عبّروا في شعرهم أصدق تعبير يمكن ان يعد وثيقة هامة من الوثائق التاريخية.
|
|