عبد العظيم الحسني في ذكراه..
(الري). . من مطمع الأعداء إلى زائري كربلاء
|
*حسين محمد علي
تلك القبة الذهبية اللامعة وسط بساتين الري جنوب العاصمة الايرانية طهران، لا تحكي فقط قصة شهيد من أولياء الله من احفاد علي وفاطمة (عليهما السلام) المشردين في أصقاع الأرض، إنما تكشف عن مفارقة تاريخية عجيبة، فصاحب المرقد يأتي من مدينة رسول الله، حيث مسقط رأسه والموطن الأساس لبني هاشم، الى هذه الأرض البعيدة، وربما سمع وعلم أنها تلك الأرض التي كانت الجائزة المغرية والغاوية بين عمر بن سعد (عليه اللعنة) وبين ارتكاب جريمة قتل الامام الحسين (عليه السلام). ليس هذا وحسب، بل تدور الايام ويأتي عهد الامام العسكري (عليه السلام) ليقول في حق صاحب هذا المرقد إن من زاره كمن زار الحسين في كربلاء! فهل نقتنع أن الصدفة كانت وراء كل ذلك؟!
قطعاً لم تسبب الصدفة في اختيار عبد العظيم الحسني (رضوان الله عليه) مدينة الري لتخذها مقراً ومخبئاً له من عيون وجلاوزة السلطة العباسية، إنما لتوفر عوامل مساعدة جعلته يفضل هذه المدينة على غيرها ولتكون البقعة الطاهرة لمرقده ومن ثم لتتحول الري، من تلك التسمية المشينة، الى مهوى لأفئدة المؤمنين والموالين لأهل البيت (عليهم السلام) من كل انحاء العالم، فلا يفد زائر الى العاصمة طهران ويخرج منها رغم وسعتها وكثرة اماكنها ومشاهدها، إلا ويعرّج على الري لزيارة هذا السيد الجليل والصحابي الكبير. كما تحولت الري فيما بعد الى مركز استقطاب علمي لكبار علمائنا ومدثينا، حيث ضمّت الجثمان الطاهر للشيخ الصدوق (رضوان الله عليه) أحد اركان الفقه الشيعي، كما ضمّت جثمان والد الشيخ الكليني، وعلماء كبار آخرين.
انه السيّد أبو القاسم عبد العظيم ابن السيّد عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد ابن الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام). ولد في المدينة المنورة في الرابع من شهر ربيع الثاني سنة 173?.
عاصر فترة امامة اربعة من الائمة المعصومين وهم الامام موسي الكاظم و الامام الرضا و الأمام محمّد التقي و الأمام علي النقي (عليهم السلام)، وقد روى الكثير من الاحاديث عن الامام الرضا و الامام محمدالتقي و الامام الهادي (عليهم السلام). لذا يعد السيد عبدالعظيم الحسني من علماء الشيعه و من رواة احاديث الائمة المعصومين(ع) و من الوجوه البارزة و المحببة و الموثقة عند اهل البيت (ع) و اتباعهم و كان عارفاً بأمور الدين و معارف و احكام القرآن و ذو معرفة و ادراك كاملين.
و يدل مديح الائمة المعصومين(ع) له علي شخصيته العلمية و مدي ثقتهم به و اعتمادهم عليه و كان الامام الهادي (ع) في بعض الاحيان يحيل اصحاب الأسئلة او ذوي الحاجات الي السيد عبدالعظيم الحسني للاجابة عليها و كان يعده من اصحابه الثقات.
المطاردة والهجرة الى الري
تعد بلاد الري التي كانت تمتد على مساحات شاسعة في ايران، من المناطق الخصبة والمعطاءة، فتحها المسلمون سنة 23 للهجرة، وكما يقول التاريخ كان للقائد العسكري آنذاك سعد بن أبي وقاص دور كبير في ذلك الانتصار الاسلامي الكبير، لكن هذه الارض وقعت تحت أنظار الطامعين والطامحين لحطام الدنيا من قادة الجيوش الاسلامية في تلك الحقبة.
وفي عهد المتوكل العباسي شهدت البلاد الاسلامية اجراءات تعسفية ظالمة ضد كل من يحمل الولاء لأهل بيت رسول الله (ص)، فتعرض المؤمنون للتنكيل والقتل الجماعي والتشريد، وكانت أبرز جريمة اقترفها المتوكل العباسي محو مشهد الامام الحسين (ع) ومنع الزائرين الوافدين اليه متبعاً كل الوسائل والطرق التي باءت كلها بالفشل، بفضل عمق الايمان والولاء الذي يحمله المؤمنون الحسينيون، وكان عبد العظيم الحسني ونظراً لقربه من الأئمة المعصومين، من الذين تحوم حوله عيون السلطة فطلبوه لاعتقاله، لكنه اختفى عن الانظار وفضل الهجرة الى البلاد البعيدة شرقاً، فوصل الى (الري) التي كان يسكنها خليط من الموالين وغير الموالين لأهل البيت (ع)، فاتخذ حيّاً يُقال له (سكّة الموالي) مقراً لاقامته وسكن في دار لأحد الشيعة الموالين، وقد عرفه الموالون في الري بانه ممثلاً عن الامام علي الهادي (ع)، فكانوا يتوافدون عليه ليتزوّدوا من علومه ورواياته، وكان معزّزاً مكرّماً عندهم.
وتشير الروايات لنا بان من الاسباب التي دفعت السيد عبد العظيم الحسني للتوجه صوب الري هو وجود مرقد أحد ابناء عمومته وهو السيد حمزة بن الامام موسى بن جعفر (ع)، وحسب الروايات فانه كان رفيقاً لشقيقه الامام الرضا (ع) في طريقه الى خراسان، الا ان جلاوزة المأمون كمنوا له في الطريق واغتالوه لاسباب مجهولة، ولم يذكر التاريخ ملابسات الحادث. لذا كان خلال وجوده في الري يواظب على زيارة مرقد السيد حمزة، وهو اليوم ملاصقاً لمرقد السيد عبد العظيم الحسني ضمن روضة واحدة.
المنزلة عند الأئمة المعصوميون
كان السيد عبد العظيم الحسني من كبار العلماء والمحدّثين الشيعة، ومن أصحاب الإمام الرضا والإمام الجواد والإمام الهادي (عليهم السلام). وقد نقل عن الأئمة المعصومين الكثير من الاحاديث والروايات التي تعتمد عليها أمهات الكتب الشيعية.
روى أبو تراب الروياني قال: سمعت أبا حماد الرازي يقول: دخلت على علي بن محمد (عليه السلام) بسر من رأى فسألته عن أشياء من الحلال والحرام فأجابني فيها، فلما ودعته قال لي: يا حماد إذا أشكل عليك شيء من أمر دينك بناحيتك فسل عنه عبد العظيم بن عبد الله الحسني، وأقرأه مني السلام.
وكان من شدة ورعه أن عرض دينه على الإمام علي بن محمد الهادي (عليه السلام) فلمّا نظر إليه الإمام (عليه السلام) قال: (مَرحباً بك يا أبا القاسم، أنت ولينا حقّاًًً). فقال السيد عبد العظيم: (إني أقول أن الله واحد... إلى أن قال: إن الفرائض بعد الولاية الصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن لمنكر، فقال (عليه السلام): (هذا والله دين الله الذي ارتضاه لعباده فاثبت عليه ثبتك الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا والآخرة)، رواه الشيخ الصدوق مفصلا في صفات الشيعة والتوحيد ص 46، والمجالس ص 204، والإكمال ص 214.
وقد أوصاه الإمام الرضا (عليه السلام) بعدة وصايا حيث قال له: (يا عبد العظيم أبلغ عني أوليائي السلام وقل لهم أن لا يجعلوا للشيطان على أنفسهم سبيلاً ومرهم بالصدق في الحديث وأداء الأمانة، ومرهم بالسكوت وترك الجدال فيما لا يعنيهم وإقبال بعضهم على بعض والمزاورة فإن ذلك قربة إليَّ ولا يشغلوا أنفسهم بتمزيق بعضهم بعضاً، فإني آليت على نفسي أنه من فعل ذلك واسخط ولياً من أوليائي دعوت الله ليعذبه في الدنيا أشد العذاب وكان في الآخرة من الخاسرين).
ويكفي في عظمة السيد عبد العظيم الحسني (رضوان الله تعالى عليه) ما ورد عن الامام الهادي (عليه السلام)، فعن محمد بن يحيى، عمن دخل على أبي الحسن علي بن محمد الهادي (عليهما السلام) من أهل الري قال: دخلت على أبي الحسن العسكري (عليه السلام)، فقال لي: أين كنت؟ فقلت: زرت الحسين (عليه السلام). فقال: أما إنك لو زرت قبر عبد العظيم عندكم لكنت كمن زار الحسين بن علي (عليهما السلام)). وسائل الشيعة ج 14ص 575 ب 93 ح (19849).
في القلب دائماً
كان السيد عبد العظيم يصوم نهاره و يقضي ليله بالعبادة و التهجّد و لم يعرفه سوى افراد قلائل من الشيعة بتواجده في الري فيزورنه بالخفاء و كانوا يجهدون في اخفاء خبره يكي لا تتعرض حياته للخطر. بعد فترة تعرف عليه الكثير من الاشخاص و اصبح بيته مقصداً للشيعة يذهبون اليه يتزودون من منهل علومه و رواياته و يشمون منه عبق عطر بيت النبوة (ص) و يرون فيه خلفاً صالحاً من ائمتهم و يحومون حوله كما تحوم الفراشة حوله الشمعة، وكان عبد العظيم الحسني معززاً مكرماً عند شيعة الري يرجعون اليه في حل مسائلهم الشرعية.
وفي أيام حياته الشريفة أصيب السيد عبد العظيم الحسني (رضوان الله عليه) بوعكة صحية جعلته طريح الفراش، وأدرك الشيعة في الري أنهم على وشك أن يفقدوا علماً آخراً من أعلام أهل البيت، وهم يقدمون التضحيات الجسام على مذبح العقيدة والايمان، لتزيد آلامهم وشجونهم. و في تلك الايام ارتسمت الحوادث المستقبلية لدي الشيعة من خلال رؤيا صادقة رآها احدهم من الصادقين، رأي رسول الله (ص) في عالم الرؤيا اذ قال له الرسول الأكرم: سيموت غداً أحد أبنائي في محلة سكة الموالي و سيحمله الشيعة علي الاكتاف الى بستان عبدالجبار و سيوارونه التراب عند شجرة التفاح، فاتجه ذلك الرجل في السحر الى البستان المذكور ليشتريه من صاحبه حتي يحظي بشرف دفن احد احفاد رسول الله (ص) في ارضه ولكن عبدالجبار صاحب البستان الذي رآى بدوره مثل تلك الرؤيا و ادرك السر الغيبي فيها وفي رؤيا ذلك الشيعي، اوقف مكان تلك الشجرة و البستان بأكمله، لكي يدفن كبار الشيعة و اعيانهم فيه و ليحظي بهذا الشرف و عند ما اصبح الصباح فارقت روح عبدالعظيم الحسني(ع) الحياة وذاع خبر وفاته بين الناس فلبسوا السواد حداداً عليه و تجمعوا على داره يبكون و ينتحبون و غسلوه و كفنوه و ينقل بعض المؤرخين انهم عثروا عند غسله علي ورقة مكتوب فيها اسمه و نسبه. بعدها صلوا عليه و دفنوه عند شجرة التفاح التي اشار اليها رسول الله (ص) في الرؤيا و اودعوه في تلك التربه ليستظيء محبو اهل البيت من نوره و ليحظوا بمزاره.
|
|