بصائر قرآنية في العقيدة..
عجز المخلوقين والطريق الى معرفة الله تعالى
|
*أنور عزّ الدين
هل على الانسان بذل الكثير من الجهد الذهني ويطوي الزمن في مسيرة حياته ليتعرف على خالق الكون والحياة، ليتعرف حينئذ على مكانته وموقعه في هذه الحياة وأيضاً حجم قدراته وامكاناته؟
البعض يختار الطريق البعيد غير المضمون عواقبه ونهايته، فيحاول البحث في ذات الخالق وهو الله عزّوجلّ، وكيف هو؟! ومن أين وإلى أين؟! وغيرها من الأسئلة والاستفهامات العقيمة. بينما يدعونا القرآن الكريم وبكل بساطة الى معرفة الخالق من خلال مخلوقاته وما تتصف به من ضعف وحاجة ومحدودية وصفات أخرى تدل على وجود الصانع الأكبر والخالق لها الذي هو غنيٌ عنها.
ينقل أحد علماء الدين إن صبياً سأله ذات مرة وبشكل عفوي: هل إن لله تعالى يدين ورجلين وعيناً وغير ذلك؟! فأجابه العالم فوراً بالنفي القاطع، لكن الصبي سأل ثانية: وهل إن الله – والعياذ به تعالى- معوّق؟! هنا كان العالم على درجة كبيرة من الحنكة والذكاء، فأجابه بالنفي أيضاً، لكنه أردف قوله تشبيهاً بالنور، وقال له: إن الله تعالى مثل النور والضياء الذي تراه، فهل له رجلان ويدان وغير ذلك؟! فقال الصبي: كلا.
وقد أكد القرآن الكريم على حقيقة أساس في العقيدة، وهي ان الوجود وكل الموجودات في الكون لايمكن ولا يسعها أن تكون آلهة، لأنها بكل بساطة بحاجة الى مدبّر وهو الله تعالى، وعليه فان المبدأ الفلسفي الذي يقسم الوجود إلى ممكن وواجب، ويتصور ان القسم الأول هو الخليقة، والقسم الثاني هو الخالق. يرفضه القرآن الكريم. إذ ان اللـه ليس بوجود ولا الخليقة بوجود، انما الوجود نور مملوك لله تعالى و موهوب للخليقة. فكيف يمكن ان يشترك الخلق مع الله في قائمة واحدة نسميها الوجود؟! بينما هي ثلاث قوائم: اللـه – الوجود – الخلق.
وبالرغم من هذه الحقيقة القرآنية التي بزغت على البشرية منذ فجر التاريخ الاسلامي، لكنّا نجد ظهور (التصوّف) في المجتمع الاسلامي والذي يزعم ان الله هو ذات الموجودات. وكذلك ذهب الفكر المادي القادم من البلاد الاجنبية والذي يحسب الخلائق هي ذات السيطرة الذاتية على نفسها، فهي هي الرب، ولا إله سواها!
العيش في أجواء المخلوقين وليس الخالق
ان الله اسمى من مخلوقاته، وأجل وأعلى من ملكوته! فهو خلو من خلقه، وخلقه خلو منه، وبينه وبين خلقه تباين في الصفات، ولا اشتراك إلا في الألفاظ التي لم توضع الا في حدود امكانيات الخلق انفسهم. فالحد الفاصل بين الله وبين الخلق التباين المطلق بينهما. فكلما يجوز في الخلق يستحيل في الخالق وهكذا العكس.
وبهذا التباين نكشف اننا لا نقدر على تحديد اللـه، ولا على اكتشاف صفاته، لاننا نعيش في مناخ المخلوقين ولا نعهد صفة، الا بقدر ما هي ظاهرة في مخلوق ما. فصفة القدرة مثلاً نعرفها في الإنسان وفي التيار وفي العاصفة وفي الكهرباء والذرة وغير ذلك، صحيح انها صفة قدرة إلا إنها مثبتة حسب معرفتنا في المخلوق، فلا يمكننا - بطبيعة التباين بين الخلق والخالق- قياسها على اللـه.. وهكذا صفة العلم والملك وبقية صفاته تعالى.
ولكننا مع ذلك نستطيع ان نعرف ثبوت ما هو أسمى من صفات القدرة والعلم والملك المتوافرة في المخلوقات بثبوت ما هو أسمى منها وأكبر في الخالق، الذي غرز في خلقه هذه الصفات المثلى. وقد نسمي ذلك الأمر الاسمى والأكبر من صفات المخلوقين بالقدرة اللامحدودة، والعلم التام والملك الدائم. إلا انها لا تعني بهذه التسمية ايجاد علاقة (بين قدرة الخلق) و (قدرة الخالق) حتى تكونان سواء، او بين (علم الخلق) و(علم الخالق)، وما أشبه ذلك.. إذ لا علاقة بينهما إلاّ علاقة المقابلة الشديدة الانعكاس، بل انما نريد بهذه التسمية ايجاد علاقة بين لفظ ولفظ، حتى نعرف اشارةً ما الى ذلك الأمر الأسمى، الثابت للخالق
من هنا كان اثبات أيّة صفة لله لا يعدو ان يكون اشارة في اطار الفهم الذي نملكه الى صفاته واسمائه دون ان يكون تحديداً للـه او جعله في اطار المخلوقين وسحب صفاتهم عليه سبحانه!
فاللفظ مشترك بين اللـه وبين الخلق، كلاهما لدى التسمية (قدرة وعلـم وملك) ولكن المعنى مختلف، بقدر ما هو مختلف ومتباين: اللـه وخلقـه، فأيـن هي القدرة المحدودة العرضية الضئيلة من الاقتدار المطلق الدائم ابــداً عنـد اللـه؟ وأين هي معرفـة احدنـا بشيء، وعلم اللـه المحيط بكل شيء؟ او ملكنا المتاع وملكوت اللـه للسموات والارضين؟!
التسبيح.. سبيل المعرفة
إن أفضل صفة نطلقها على الله، هي صفة محورية تدور بين النفي والاثبات، النفي لقطع أية صلة تشابه بينه وبين خلقه، والاثبات للايمان بأنه اسمى من خلقه واكبر. فهو القادر غير مقدور، والمالك غير مملوك، والعليم ولا معلوم، ولترسيخ هاتين الحقيقتين؛ حقيقة ثبوت اللـه وصفاته المثلى من جهة، ونفي الصفات المعروفة في المخلوقين عنه، لترسيخ ذلك في نفوس البشر التي تعودت على معرفة الخلق، كان لا بد من التقديس، والتسبيح، والتنزيه، بكلمة (سبحان الله) التي كثرت في القرآن الكريم، وعدت ركيزة الأذكار في الصلاة.
إن التسبيح يجعلنا فجأة امام الله سبحانه وتعالى، إذ انه ينفي عن اذهاننا المخلوقين فيظهر الخالق، ولانه من جهة ثانية، يحل عقدة مستعصية من نفس البشر، وهي العادة على تحديد الأشياء، لأن النفس البشرية مخلوقة ومن طبيعتها التحديد، لذا دائماً تتورط في الشبهات العقيمة، كيف؟ واين؟ وماذا؟ بل حتى لماذا؟! وتريد ان تُخضع اللـه لمقاييس الخلق فتضل ضلالاً بعيداً، وهنا تأتي كلمة (سبحان الله) لتنقذ البشر مرة واحدة من ورطته الكبيرة، وتقول له: إنك امام خالق المخلوقات، حيث تعجز الالفاظ وتنهار الحدود، وتنحسر المعارف البشرية الساذجة.
ان القرآن الكريم قد بدأ سوراً كثيرة بالتسبيح، وقال انه لسان ما في السموات والارض جميعاً، وأمر بالتسبيح بكرة واصيلاً.
وإذا القرآن الكريم يعرّف الله تعالى بنفي التشبيه بينه وبين خلقه فان صفاته الحسنة، انعكاس لهذه المباينة دون ان تكون صفات محدودة ومميزة و متسمة بالكم والكيف والأين، فلا نعني من قدرته سوى نفي العجز عنه، ولا من علمه غير نفي الجهل منه، وهكذا. . لانه لا يمكن تصور اللامحدود، او تعريف اللامتناهي.
يبقى سؤال : كيف إذاً تمكن البشر من نفي العجز والجهل عن ربهم ؟
والجواب ببساطة: وجود هذه الصفات في الخلق هدانا الى ان الله حق. فلو افترضنا وجود ذات الصفات في الخالق، إذاً وقعنا في المحال الذي هربنا منه، تصوّر لو انك رُميت بحجر ففحصته فلم تر فيه القدرة الذاتية، فقلت لابد ان تكون حركته من غيره، ثم افترضت ان يكون رامي الحجر حجر ساكن مثله، ألست قد تناقضت مع نفسك، إذ لو كان الحجر الثاني قادراً على التحريك وهو ساكن، فلماذا رفضت ان يكون الحجر الاول متحركاً بذاته؟! والله سبحانه لو كان منطوياً على العجز لم تكن تحتاج اليه، إذ كفى بالمخلوقين عاجزين، انما اهتدينا الى الله القادر بعد ان شاهدنا صفات العجز في المخلوق.
من هنا لا نجد صفة عجز او ذل او صغار في المخلوق الا وتهدينا الفطرة الى تعالي الله عنها علواً كبيراً. ولا نرى فعلاً محدوداً منظماً بتدبير حكيم، الا ونهتدي به الى الله، وكلّما وجدنا الفعل من الدقة والحكمة والفائدة اهتدينا الى نوع من صفات الله واسمائه الحسنى، فلو وجدنا مثلاً وردة بديعة المنظر زاكية العرف، قلنا: سبحان اللـه اللطيف، أوليس يتصف باللطف (ودقة الصنع) من ابدع هذه الوردة؟ اما لو لاحظنا الاهداف العديدة التي صنعت من اجلها الوردة، من تنقية الجو واشاعة العبق، لاهتدينا الى حكمة بارئها، اما إذا تصورنا الفوائد الصحية التي تصيب الإنسان من الوردة عرفنا ان خالقها رحيم بعباده.
ان آيات القرآن تذكرنا مرة بعد اخرى بنوع الافعال التي تشهد على صفات اللـه تعالى، وقد تسبق التذكرةُ بالفعل، التذكرةَ بالصفة التي نهتدي بسببها إليها. وها نحن نستمع الى القرآن يذكرنا بصفات الله: قـال تعـالى: " ذَلِكَ بَأَنَّ اللـه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللـه سَمِيعٌ بَصِيرٌ"، وقال تعالى: "ذَلِكَ بِاَنَّ اللـه هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللـه هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ"، وقال تعالى: " أَلَمْ تَـــرَ أَنَّ اللـه أَنزَلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَتُصْبِحُ الاَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللـه لَطِيفٌ خَبِيرٌ"، وقال تعالى: " لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللـه لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ"، وقال تعالى: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللـه سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِاَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمآءَ أَن تَقَعَ عَلَى الاَرْضِ إِلاَّ بإِذْنِهِ إِنَّ اللـه بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ".
ان نظام الليل والنهار يهدي الى تدبير رشيد، والذي يهدي بدوره الى ان اللـه سميع عليم. فهل يدبر من لا يسمع؟! او بالاحرى من لا يعرف ما يجري في محور تدبيره؟ او هل ينظم من لا يعلم؟ فالثابت الذي لا يتغير يتسم بالعلو والكبرياء، فهو الحق وغيره الباطل الذي سيزول عاجلاً أم آجلاً، إذاً فهو العلي الكبير، ومَن اكبر ممن يدوم بعد فناء كل شيء؟
ونظرة الى الارض وما بها من تراب ناعم، كيف ينزل اللـه عليه الماء ويحوله الى مصانع بارعة تنسج رداءً اخضر للارض. ان هذه النظرة تهدينا الى دقة صنع اللـه، ومن ثم الى ان اللـه لطيف خبير.
ونحن حينما نعبر بالغني عمن يملك شيئاً، ننسى انه لا يملك اشياء كثيرة، وانه قد يكون غنياً بمحض الصدفة. اما اللـه الذي له ما في السموات والارض، فهو وحده الغني الذي لا فقر معه وانه حميد لانه لم يرث الغنا، ولا جاءته صدفة، بل خلقها وابدعها ابداعاً.
وترى مـا في الارض مسخرة لك ذليلة امامك. وفي البحار حيث تجري الفلك بأمر اللـه، ترى مدى النعمة عليك. ثم تنظر الى السماء فتخشى ان تنزل عليك، أو أن تتصادم نجومها في حلكة الليل، إلا ان اللـه امسكها عنك، فتسأل نفسك: افليس من احاطني بهذه النعم رؤوفاً رحيماً، ومن هو اوسع رحمة من اللـه؟
ان هذا النوع من البيان ليس طرازاً رفيعاً من الأدب الموجه فقط، - وإن صادف ذلك - بل انه المنهج العلمي الذي يهدينا فعلاً الى اللـه الكبير. فنحن عاجزون، بطبيعة المحدودية التي بنا، عن ان نفكر في الخالق الذي لا تحيط به الحدود، فكان لابد ان ننظر الى المخلوقات التي نشترك واياها في المحدودية.. لنجعلها معبراً الى معرفة الخالق. فالتفكير انما هو في المحدود. وكلما تعمقنا في معرفة حدوده وآيات عجزه او سمات كماله.. توضح لدينا اكثر فاكثر صفة (المخلوقية فيه)، وبالطبع نهتدي هنالك الى بعض آيات اللـه، لانه مباين مع مخلوقيه، فالمنهج القرآني يكرّس بيانه لمعرفة المخلوق، والنظر اليه وملاحظة جوانب الحاجة فيه، على ان ذلك معبر الى اللـه تعالى. وهذا هو الطابع الذي يميز الحضارة القرآنية عن جاهليات الفلسفة الاغريقية التي تعمقت في ذات اللـه بعيداً عن النظر الى آياته، فضلّت ضلالاً بعيداً.
|
|