ابن الشجري ـ نابغة العربية
|
*علي ياسين
إليه انتهت علوم العربية وآدابها في وقته فاصبح علمها البارز وصرحها الشاخص.
لأرتباط هذه الوطيدة بنظمه ومنهجيته هيأ الله تعالى لها من يحفظها من الضياع ويلمها من الشتات لتكون عنوان الامة وروحها النابضة فكان أديبنا وشاعرنا ابن الشجري احد اولئك العلماء الافذاذ الذين صانوها من ايدي المحرفين وواجهوا التحديات التي حاولت طمسها وقد تقلد زعامة العربية بعد أبي معمر ابن طباطبا العلوي عبر سلسلة متصلة تناقلت هذه الزعامة وقادت مدرسة العربية الى الذروة من الرقي والازدهار فقد اخذ ابن طباطبا عن علي بن عيسى الربعي الذي اخذ عن ابي علي الفارسي عن ابن السراج عن ابي العباس المبرد عن المازني والجرمي اللذين اخذا عن الاخفش واخذ الاخفش بدوره عن سيبويه عن الخيل بن احمد الفراهيدي عن عيسى بن عمر عن ابن ابي اسحاق عن ميمون الاقرن عن عنيسة الفيل عن ابي الاسود الدؤلي عن مؤسس العربية الاول وواضع قواعدها واصولها امير المؤمنين وسيد البلغاء والمتكلمين الامام علي بن ابي طالب عليه السلام. لقد كان صاحبنا خليفة هذه العقول الكبيرة والعبقريات النادرة فواصل مسيرة اللغة وعلومها عالماً، أديباً، نحويا، شاعراً.
كثيرة هي التراجم التي ترجمت حياة ابن الشجري العلمية والادبية وبيان مكانته الجليلة فيهما لكنها لم تتعرض الى جوانب حياته الاخرى وخاصة بواكيره التي كانت لها بالتأكيد دور كبير في بروز هذه الشخصية وعلو مؤهلاتها وسمو مواهبها وهذا هو ديدن المؤرخين.
وسنقتصر في مجال ترجمته بايجاز التراجم الكثيرة بما ذكره ياقوت الحموي في معجم الادباء (ج19) ص (282) حيث قال: (كان اوحد زمانه، وفرد أوانه، في علم العربية ومعرفة اللغة، واشعار العرب وايامها وأحوالها، متضلعا في الادب، كامل الفضائل)
وترجم له بمثل هذا السيوطي في (بغية الوعاة) ص(407) وابن شاكر في (فوات الوفيات) ج (2) ص(610) وابن القفطي في (أنباه الرواة) ج(3) ص (356) وغيرهم ورغم ان المؤرخين كانوا يبالغون في اطلاق النعوت ويكيلون بالالفاظ الرنانة حسب هداهم إلا ان هذه الاوصاف لم تطلق جزافا بل انها كانت اصدق مايمكن ان ينعت به صاحبنا ابن الشجري فـ (أوحد زمانه وفرد أوانه) لايمكن لأي مؤرخ ان يحابي بها أي احد ما لم يكن يستحقها وإلا لكان هناك سجال طويل ولكن لايمكن ان يشك أحد في ان شاعرنا ابن الشجري كان يستحق عن جدارة هذه الالقاب إذا أُستقرأ تاريخه الحافل بالعلوم وعرف الى أية اسرة ينتمي فهو سليل شجرة العلم ومهبط الوحي. هو ابو السعادات ضياء الدين الشريف هبة الله بن علي بن محمد بن علي بن عبد الله بن ابي الحسن بن عبد الله الامين بن عبد الله بن الحسين بن جعفر ابن الحسن بن علي بن ابي طالب عليهم السلام وقد عرف بـ (ابن الشجري) العلوي البغدادي عالم اديب شاعر ولد في شهر رمضان ببغداد سنة (450)هـ نشأ بها ويعود نسبه الى بيت الشجري المعروف من قبل أمه وقيل انه كان من اجداده لامه من اسمه شجرة وقيل نسبة الى شجرة فريدة بالمدينة في الحجاز. نشأ شاعرنا نشأة علمية منذ نعومة اظفارة فتتلمذ في بداية حياته العلمية على يد علي بن فضال المجاشعي والخطيب ابي زكريا التبريزي وسعيد بن علي السلالي وابي معمر بن طباطبا العلوي واخذ الحديث عن المبارك بن عبد الجبار الصيرفي ومحمد بن سعيد الكاتب وغيرهما أما من اخذ عنه وتتلمذ على يديه فهذا ما لايسعنا حصره من الاسماء الكثيرة على مدى سبعين سنة كان خلالها استاذا لعلوم العربية وآدابها وابرز من اخذ عنه تاج الدين الكندي وابن الخشاب وقد تولى ابن الشجري نقابة الطالبيين بالكرخ بعد والده الطاهر علي بن محمد لما كان يتمتع به من شخصية مهيبة وصيت جليل ووقار ومن ملكاته النفسية انه لايكاد يتكلم في مجلسه بكلمة إلا تتضمن أدبا نفسيا او علما مفيدا ومما يدعل على مكانته العلمية والادبية الكبيرة مارواه ابن الانباري في (مناقب الادباء) : ان العلامة ابا القاسم محمود الزمخشري لما قدم بغداد قاصدا الحج في بعض اسفاره مضى الى زيارة شيخنا ابي السعادات ابن الشجري فيمضينا معه اليه فلما اجتمع به انشده ابن الشجري قول المتنبي:
وأستكبرُ الاخبار قبل لقائه
لما التقينا صغر الخبر الخبرُ
(والخُبرُ: الاختبار) ثم انشده قوله:
كانت مساءلة الركبان تخبرنا
عن جعفر بن فلاح احسن الخبرِ
ثم التقينا فلا والله ماسمعت
أُذني بأحسن مما قدرأت بصري
فقال العلامة الزمخشري: (روي عن النبي صلى الله عليه وآله انه لما قدم عليه زيد الخيل قال له : يازيد ما وصف لي احد في الجاهلية فرأيته في الاسلام إلا رأيته دون ما وصف لي غيرك) ويقصد الزمخشري بذلك الشريف ابن الشجري قال ابن الانباري: فخرجنا من عنده ونحن نعجب من استشهادهما بالشعر والحديث وقد وصف ابن الانباري الذي كان معاصراً لابن الشجري السمات العلمية والشخصية لشاعرنا فقال في (نزهة الألباء) ص (285) : كان فريد عصره ووحيد دهره في علم النحو وكان تام المعرفة باللغة وكان فصيحا حلو الكلمة حسن البنيان والافهام وكان وقورا في مجلسه ذا صمت لايكاد يتكلم في مجلسه بكلمة إلا وتتضمن ادبا نفسيا أو آداب درس وكان أنحى من رأينا من علماء العربية وآخر من شاهدناه من حذاقهم وأكابرهم. كان ابن الشجري اضافة الى هذه الملكات حكيما لاينطق إلا بالحكمة ولعل ذلك راجع الى طول صمته وعدم تكلمه إلا فيما يقتضي ذلك منه ومما يروى في هذا المجال انه اختصم اليه يوما رجلان من العلويين فجعل احدهم يشكو ويقول عن الآخر: انه قال في كذا وكذا فقال له الشريف: يابني احتمل فان الاحتمال قبر المعايب وهذه الكلمة هي حكمة بالغة ذات دلالة عظيمة فان الانسان عندما يسكت عن عيوب الناس فانهم يغضون عن عيوبه أما اذا تعرض لها وشنع لعيبهم بها فأنهم يوصمونه بعيوب لم تكن عنده وقد اقتبس الشريف هذه الكلمة من قول امير المؤمنين عليه السلام:
لسانُك لاتذكر به عورة امرئ
فكلك عوراتٌ وللناس أعين
عينُك إن أبدت اليك معايباً
فصنها وقل ياعين للناس ألسنُ
وهناك أمثلة اخرى دلت على حكمته وفضله وشخصيته المهيبة ذكر بعضها ابن القفطي في (انباه الرواة) وقال في ترجمته في نفس الكتاب ج(3) ص (356): (وله تصانيف في النحو، وقد انتفع عليه جماعة، وله تلامذة، عباراته حلوة رائقة، نافعة نافقة، وفضله اكبر من شعره.)
أما آثاره العلمية فهي ثروة عظمية وكنز نفيس مادة ومضمونا وكتبه تعد معولا ومرجعا في موضوعاتها وابرزها كتاب (الامالي) وهو اكبر كتب الامالي حجما ومادة واكبر مؤلفاته وامتعها واغزرها تضمن (84) مجلسا في مختلف الفنون واللغة والادب وكان ابن الشجري أول من أرّخ لمجالسه من اصحاب الامالي ورغم انه لم يؤرخ لكل مجالسه إلا اننا نستشف من تاريخ المجالس التي أرخها المدة التي استغرقها في تأليف هذا الكتاب الضخم. فأول مجلس أرّخه هو المجلس الثامن وجاء بتاريخ يوم السبت (1) جمادى الاولى عام 524 هـ وآخر مجلس أرخه هو المجلس الثاني والثلاثون وجاء بتاريخ يوم السبت (8) ربيع الاول 536 هـ فقد وضع 24) مجلسا في (12) سنة وقد بلغت شواهده الشعرية (110) بيت غير المكرر ويمكن ان يعد هذا الكتاب واحدا من شروح ديوان المتنبي لكثرة ما استشهد فيه بشعره مع الروح والتعليقات وتعقب غيره من الشراح اضافة الى الطابع الذي غفلب على الكتاب من مسائل النحو ومعالجة دقائق حروف المعاني كما احتوى على الكثير من التنظيرات التي انفرد بها ابن الشجري ومحاولات التجديد التي سعى لا تكون ميسرة في النحو بعيدة عن التعقيد كما يبين هو ذلك بقوله في احد مجالسه: (والمتّسمون بالنحو قبيل وقتنا هذا ممن شاهدته وسمعت كلامه على خلاف ماقلته واوضحته فاستمسك بما ذكرته لك فقد اقمت له برهانه) ويوجد جزء من هذا الكتاب بخط ابن الشجري في خزانة الرباط أُرخ بعام 539 هـ كما طبع هذا الكتاب لأول مرة في حيدر آباد سنة 1349هـ حتى المجلس (87) في مجلدين وطبع جزء منه في القاهرة ونشر الدكتور حاتم صالح الضامن الستة اجزاء المتبقية من المجالس عام 1984م تحت عنوان (ما لم ينشر م الآمالي الشجرية) ولم ينشر هذا الكتاب كاملا إلا عام 1992م عندما قام بتحقيقه كاملا الدكتور محمود الطناحي وقدمه لنيل الدكتوراه ومن كتب ابن الشجري ايضا (الحماسة الشجرية) ضاهي به حماسة ابي تمام وطبع ايضا في حيدر آباد سنة 1345 وكتاب (شرح التصريف الملوكي) و (شرح اللمع لابن جني) و (ما اتفق لفظه واختلف معناه) و (المنظومة في البلاغة) وتوجد نسخة منها بمكتبة الجامع الازهر و (مختارات ابن الشجري) اضافة الى شعره المتناثر في بطون الكتب وثنايا المصادر وقد جمع منه مايقارب الديوان الاستاذ علي الخاقاني مع اضافة تعليقاته عليه ونشره في موسوعته شعراء بغداد الجزء الخامس عشر ومن شعر ابن الشجري قوله:
هذي السديرةُ والغدير الطافحُ
فاحفظ فؤادك انني لك ناصحُ
ياسدرة الوادي الذي إن ضله الـ
ساري هداه نشره المتفاوحُ
هل عائد قبل الممات لمغرم
عيش تقضى في ظلالك صالحُ
وقوله:
وتجنب الظلم الذي هلكت به
أممٌ تود لو انها لم تظلم
اياك والدنيا الدنية انها
دارٌ اذا سالمتها لم تسلم
وقوله:
وحتى متى تعنى شؤونك بالبكا
وقد جدّجدٌ للبكاءِ جليدُ
واني ان لانت قناتي لضعفها
لذ مرة في النائبات شديدُ
توفي ابن الشجري ببغداد يوم الخميس 26 رمضان عام 542 عن 92 عاماً وُفن في داره بالكرخ وصلى عليه علي بن الحسين الغزنوي.
|
|