لكي لاننحرف عن الطريق. . لنستلم طاقاتنا من السماء
|
*يونس الموسوي
كيف يعالج القرآن الكريم موضوع الإنحراف العقائدي لدى المسلمين؟
يخاطب القرآن الكريم قائد الأمة الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله فيقول له: "فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ" (الشورى /15) وفي آية أخرى "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ" (هود /112). فالمقصود هنا ليس فقط رسول الله صلى الله عليه وآله وإنما كل الذين يضعون أنفسهم فوق رأس الهرم، ويعدون أنفسهم زعماء للأمة، فهؤلاء أكثر حاجة من غيرهم للإستقامة على الطريقة الثابتة لأنهم لو إنحرفوا عن جادة الصواب والهداية سيسحبون معهم الأمة نحو الهاوية.
لذا لابد من استقامة القيادة حتى يمكن ضمان سلامة المسيرة، وإذا قرأنا التاريخ بشكل جيد سنجد أن بعض القيادات البشرية التي بشرت بمبادئ وافكار هي أول من تخلت عنها، ثم انقلب القياديون 180 درجة على مبادئهم التي دعوا إليها، ومن أجل تقريب هذا المفهوم إلى الأذهان لن نجد أفضل من تجربة حزب البعث العراقي البائد كدليل على ذلك، فهذا الحزب أول ما أتى إلى العراق كان يرفع شعارات تحمل بعض الايجابيات وتثير حاجات الامة وجروحها؛ (وحدة وحرية واشتراكية)، الى جانب عبارات وشعارات براقة تحمل مفاهيم اجتماعية وانسانية جميلة، لكن هذا الحزب وطيلة فترة حياته السياسية لم ينفذ ولا واحدة من هذه الشعارات بل وشاهدنا قيادي هذا الحزب وهم يعملون بخلاف تلك المبادئ تماماً ونحن نذكر ذلك لأن تجربة حزب البعث هي أقرب تجربة شاهدها الشعب العراقي، لكن التجارب البشرية قد شهدت الكثير من هذه النماذج بما في ذلك تجارب الثورات الشعبية التي رفعت ونادت بشعارات إنسانية رفيعة.
لكن بالمقابل إقرأوا تاريخ الرسالات السماوية وقصص الأنبياء عليهم السلام، هل تجدون في قصة أحدهم إنحرافاً عن المسيرة التي اختطها له رب العزة؟ هل ستلاحظون شيئاً من الإنقلاب على مبادئ السماء؟ هل ستلمسون شيئاً من التحول عن الفكر السماوي الغيبي؟ هل ستجدون نوعاً من التراجع عن المبادئ والقيم التي بعثهم بها رب العزة؟ وبرغم كل التحديات الصعبة التي كانت تقف في طريقهم لم يتزلزل أي واحد من الأنبياء عن طريق الله عزّ وجل، فقد واجه إبراهيم عليه السلام الحرق بنيران ألقي فيها بالمنجنيق لمسافتها البعيدة وعظم حجمها، فيما عاش موسى عليه السلام مطارداً منذ طفولته وحتى كبر سنه، بينما واجه عيسى عليه السلام ضغوط الحاجة الغريزية في نفسه لكن رسالته والطريقة التي كان يبلغ بها جعلته يضحي بكل شيء من اجلها، فعاش سائحاً في ارض الله لا يستقر في موطن، ومن ذلك سُمي بـ (المسيح)، وفوق كل ذلك تعرض في أواخر حياته للمطاردة من قبل الحكام حتى أوهموا للناس انهم اعتقلوه وصلبوه وقضوا عليه بينما كانت "يد الله فوق أيديهم" و "مكر أولئك هو يبور".
ثم نأتي الى نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الذي واجه شتى صنوف الأذى والصعاب والتحديات التي كانت كل واحدة منها تكفي للقضاء على حياته، الى جانب ما عُرض عليه من المغريات من قبل مشركي مكة. وقال قولته المشهورة: (لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على ان اترك هذا الامر ما تركته وإن قتلت في سبيل ذلك).
ان كل الأنبياء هم بشر ولديهم مشاعر وأحاسيس بشرية فأنفسهم تشتهي وتشتاق وأجسادهم تتألم كما سائر الأجساد، لكننا لم نقرأ عن أحدهم أنه قد تنازل عن رسالته نتيجة ضغط الشهوات أو آلام الجسد. ماذا يعني ذلك...؟
ان الله سبحانه وتعالى إجتبى من بين البشرية جمعاء أشخاصاً ذوي خصال رفيعة وعَهِد اليهم الرسالة وكانوا أهلاً لها، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على أن أمر الرسالة وإمامة الدين لاتكون لأي أحد من الناس إلا بعد إجتباء واصطفاء، لأنه لايقدر على حمل هذه الأمانة إلا رجال قد امتحن الله قلوبهم في مواضع ومواقف كثيرة.
وها هو الفرق بين القائد المصطفى من قبل الله عزوجل وبين القائد الذي يختاره الناس أو ينصب نفسه ملكاً عليهم، فإن احتمال إنحراف الأول عن الصراط المستقيم هو احتمال باطل لأن الاختيار من قبل الله عزوجل أما احتمال إنحراف الثاني فهو كبير، لأنه ليس أهلاً لهذا الموقع الذي جعل نفسه فيه إضافة إلى أنه لايتلقى دعم الغيب لتثبيت وتصحيح مسيرته كما هو حال كل الأنبياء والمرسلين الذين يكونون على إتصال دائم مع الوحي ويتلقون التعليمات منه، ولو قرأنا تاريخ جميع حكام المسلمين لوجدنا الكثير من الظلم والأخطاء التي ارتكبوها في مجال الحكم والقضاء وغيرهما.
وعندما نقول بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي يجتبي الأفراد لنشر رسالاته، فالمقصود بذلك هو أنه عزوجل يريد ضمانة سلامة الدين من التغيير والتحريف والتزوير، ولو افترضنا بأن الامامة والنبوة هي بالشورى ومن اختيار الأمة، ماذا كان سيحصل لدين الله؟
كان يحصل مثل الذي حدث لبني إسرائيل بعد نبيهم موسى عليه السلام، أو ما وقع لهم من الإنحراف بعد نبيهم عيسى عليه السلام، لأن القائد غير المسدد من جانب الغيب والذي يستعمل افكاره و مزاجاته الخاصة في كل الأمور لاشك إنه سيرتكب خطأ ما.
لذا فان القرآن الكريم ومن أجل حماية الأمة من الإنحراف يركز بالدرجة الأولى على حفظ مسيرة القادة من الإنحراف، ولو اطلعنا على الأحاديث القدسية التي جرت بين الله سبحانه وتعالى وبين أنبياءه المخلصين سنجد أنه عزوجل أشرف بذاته على تربية هؤلاء الأنبياء وتعليمهم وتزويدهم بالحكم الرفيعة، ففي كل حادثة وفي كل لقاء كانت هناك عبرة وكانت هناك حكمة.
فهؤلاء الرجال العظام بحاجة إلى طاقات عالية لمواجهة كل الظروف والأوضاع التي ستقابلهم، فمن أين لهم هذه الطاقات؟
إنهم سيحصلون عليها من خلال تربية الله لنفوسهم، أما القيادات والزعامات الدنيوية من أين تحصل على الطاقة التي تساعدها على تقديم المزيد من العطاء للأمة؟ وهؤلاء لايأتون إلى السلطة والحكم من أجل العطاء بل من أجل الأخذ، لذا فهم ليسوا بحاجة إلى اية طاقة معنوية، لأنهم بالأصل لايريدون إستخدام مثل هذه الطاقة في فعل الخير للأمة.
وإذا عدنا إلى الآية التي تتحدث عن الإستقامة سنجد هناك أمراً إلهياً بذلك فالقرآن الكريم يقول: "واستقم كما أمرت" فالإستقامة هنا لاتكون إلا بأمر إلهي، أي بمنهج سماوي واضح لهذا النبي، لكنه غير واضح لغيره، لذا فأن الآخرين سيعجزون عن القيام بهذه المهمة بينما يستطيع النبي المرسل من قبل الله تعالى أن يفعل ذلك لأن المنهج بالنسبة إليه واضح. ولو كان طريق الإستقامة واضح لكل الناس لما تفرقوا إلى مذاهب ومدارس فقهية وفكرية وعقائدية مختلفة، لكن معالم هذا الطريق هي لدى أفراد خاصين إنتدبهم الله سبحانه وتعالى لهذه المهمة المقدسة من دون الناس جميعاً، فهؤلاء هم الأدلاء على الله، والناجي هو من يتبع طريقتهم ويقتفي أثرهم.
ففي هذه الدنيا الظلماء لايسلم فيها حتى ذو البصيرة الثاقبة، وإنما عليه أن يتبع نور الهدى حتى يصل إلى مراده ومقصوده، ففي هذا الطريق الصعب سقط كثير من الناس الذين كنا نظنهم من أهل التقى والإيمان. فهؤلاء إنزاحوا عن الصراط لأنهم إتبعوا عقولهم وشكوكهم الخاوية ولم يثبتوا على يقين ولم يسلكوا طريق الأئمة الأطهار سلام الله عليهم حتى سقطوا في الشرك دونما شعور منهم.
ان اتباع الأئمة الأطهار سلام الله عليهم هو أقصر الطرق إلى الله عزوجل فهم الصراط المستقيم ومن اهتدى بهم فقد اهتدى إلى الله ومن خالف أمرهم فقد خالف الله وسقط في الهاوية، وفي هذا قال الإمام علي عليه السلام: (اعلموا أن الله تبارك وتعالى يُبغض من عباده المتلوّن، فلا تزولوا عن الحق، وولاية أهل الحق، فإنه من استبدل بنا هلك) (بحارالانوار، ج10، ص105).
وكيف يصل الإنسان إلى هذا المستوى من الانحراف؟ إنه يصل إلى ذلك عندما ينخدع بوساوس الشيطان الرجيم ويتبع شكوكه التي تسهم في تضعيف إيمانه، وفي خاتمة المطاف يستعمل عقله في قياس الأشياء فيقع في قياسات خاطئة تنتج له فكراً منحرفاً وعقيدة مختلفة عما أتى به النبي الأعظم صلى الله عليه وآله.
|
|