الأمثال في القرآن الكريم وانسجامها مع البيئة
|
* بقلم / آية الله الشيخ جعفر السبحاني
لا شكّ أنّ كلّ خطيب يتأثر بالظروف التي يعيش فيها، وبسهولة يمكن فرز كلام المدني عن القروي، وكلامهما عن كلام البدوي، وما ذاك إلاّ لاَنّ البيئة تُعدّ أحد الاَضلاع الثلاثة التي تُكوّن شخصية الاِنسان، و من هذا الجانب أصبح بإمكان المحقّق الخبير بالتاريخ أن يميز الشعر الجاهلي عن الشعر في العصر الاِسلامي، و الشعر في العصر الاَموي عن الشعر في العصر العباسي، وما هذا إلاّ نتيجة انعكاسات البيئة على التراث الاَدبي، ولكن القرآن الكريم بما أنّه كلامه سبحانه قد تنزّه عن هذه الوصمة، لاَنّ الله سبحانه خالق كلّ شيء فهو منزَّه من أن يتأثر بشيء سواه. ومع ذلك كلّه جاءت الاَمثال القرآن الكريم لهداية الناس ولذلك رُوعيَ فيها الغايات التي نزلت لاَجلها، فنجد ان الطابع المكّي يعلو هامة الاَمثال المكية، والطابع المدني يعلو هامة الاَمثال المدنية.
أمّا الاَمثال المكية، فكانت محور معالجة الاَدواء التي ابتلي بها المجتمع المكي لا سيما وانّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجادل المشركين ويسفّه أحلامهم ويدعوهم إلى الاِيمان بالله وحده، وترك عبادة غيره، والاِيمان باليوم الآخر، ففي خِضمّ هذا الصراع يأتي القرآن الكريم بأروع مثل ويشبّه آلهتهم المزعومة التي تمسكوا بأهدابها ببيت العنكبوت الذي لا يظهر أدنى مقاومة أمام ابسط نسمة هواء. يقول سبحانه: "مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَولياء كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتّخَذَتْ بَيتاً وإِنَّ أَوهَنَ الْبُيُوتِ لَبيتُ العَنْكَبُوتِ لو كانُوا يَعْلَمون". (العنكبوت /41).
كما أنّه سبحانه في آية أُخرى أثبت عجزهم عن خلق حشرة صغيرة مثل الذباب: "يا أَيُّهَا النّاس ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا له إِنَّ الّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً ولَوِ اجْتَمَعوا لَهُ وإن يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطّالِبُ وَالْمَطْلُوب". (الحج /73).
فقد كانت قريش تعبد 360 إلهاً يطلونهم بالزعفران فيجفّ، فيأتي الذباب فيختلسه فلا يقدرون عن الدفاع عن أنفسهم، ففي هذا الصدد، قال سبحانه: "ضعف الطالب والمطلوب" أي الذباب والمدعوّ. فأي مثل أقرع من تشبيه آلهتهم بهذه الحشرة الحقيرة! تقول (بنت الشاطئ) في كتابها (القرآن الكريم وقضايا الاِنسان): (... ولقد مضى على الناس منذ ضرب لهم كتاب الاِسلام هذا المثل أربعة عشر قرناً، وما يزال المثل القرآني يتحدَّى كل جبروت الغزاة وعبقرية العلماء، وما يزال على الذين غرّهم الغرور بما حقّق إنسان العصر الحديث من معجزات العلم، أن ينسخوا ذلك، بأن يجتمعوا فيخلقوا ذباباً، أو يستنقذوا شيئاً سلبتهم إيّاه هذه الحشرة الضئيلة التي تقتلها ذرّة من هواء مشبع بمُبيد الحشرات، وتستطيع مع ذلك أن تسلب مخترع المبيد حياته، بلمسة هيّنة خاطفة تحمل إليه جرثومة داء مميت).
هذا في مجال الردِّ على عبادتهم للاَوثان والاَصنام، أمّا في مجال ركونهم إلى الدنيا والاِعراض عن الآخرة، يستعرض مثلاً يشير فيه إلى أنّ الدنيا ظل زائل وليست خالدة، قال سبحانه: "إِنَّما مَثَلُ الحَياة الدُّنيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الاََرض مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ وَالاََنْعامُ حَتّى إِذا أَخَذَتِ الاََرْضُ زُخْرُفَها وَ ازّيّنَتْ وَظَنّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَليها أَتاها أَمْرُنا لَيلاً أو نَهاراً فَجَعَلْناها حَصيداً كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالاََمْسِ كَذلِكَ نُفَصّلُ الآياتِ لِقَومٍ يَتَفكَّرُون". (يونس /24).
هذا بعض ما يمكن أن يقال حول الاَمثال التي نزلت في مكة. وأمّا الاَمثال التي نزلت في المدينة، فقد نجد فيها الطابع المدني لانها بصدد علاج الامراض التي ابتلي بها المجتمع آنذاك، وهي امراض وظواهر اخلاقية و اجتماعية بعد اجتياز حالة الشرك والوثنية فكانت المعالجة بالتمثيلات التي سنشير إليها.
فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في مهجره مبتلى بالمنافقين الذين كانوا يبطنون الكفر ويظهرون الاِسلام بغية الاِطاحة بالدولة الاِسلامية الفتيّة، وفي هذا الصدد نرى أنّ الاَمثال المدنية تطرّقت إلى المنافقين في آيات كثيرة و بيّنت خطورتهم على الاِسلام والمسلمين، فتارة يضرب الله سبحانه لهم مثلاً بالنار وأُخرى بالمطر، يقول سبحانه: "مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الّذِي اسْتَوقَدَ ناراً فَلَمّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ في ظُلماتٍ لا يُبْصِرُون * صُمّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُون * أَوْ كَصَيّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ المَوتِ وَاللهُ مُحيطٌ بِالكافِرين". (البقرة /17ـ 19).
كان المجتمع المدني يضمُّ في طيّاته طوائف ثلاثاً من اليهود وهم: بنو قينُقاع، وبنو النضير، وبنو قُريظة؛ وقد جُبل هؤلاء على المكر والحيلة والغدر، وكانوا يقرأون سمات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في توراتهم، ويمرون عليها مرار الاَُمي الذي لا يجيد القراءة والكتابة، وهذه السمة أدت إلى أن يشبّههم سبحانه بالحمار الذي يحمل أسفاراً قيّمة دون أن يستفيدوا منها شيئاًً، يقول سبحانه: "مَثَلُ الّذِينَ حُمّلُوا التَّوراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ القَومِ الَّذينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَاللهُ لا يَهْدِي القَومَ الظالِمين". (الجمعة /5)
وأمّا المسلمون الذين عاصروا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانوا بحاجة إلى هداية إلهية تصلح أخلاقهم، فقد كان البعض منهم ينفق أمواله رئاءً دون ابتغاء مرضاة الله، أو ينفقونها بالمنّ والاَذى، فنزل الوحي الاِلهي بمثل خاص يبيّن موقف المنفق في سبيل الله، والمنفق بالمنِّ والاَذى أو رئاء الناس، قال سبحانه: مَثَلُ الَّذينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في سَبيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مائةُ حَبّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَليم". (البقرة /261)، وقال سبحانه: "يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لاتُبْطِلُوا صَدقاتِكُمْ بِالمَنّ وَالاََذى كَالّذي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ وَلا يُوَْمِنُ باللهِ وَاليَومِ الآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفوانٍ عَليه تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَركَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ على شَىءٍ مِمّا كَسَبوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقومَ الكافِرِين". (البقرة /264).
هذه إلمامة خاطفة لملامح الامثال في القرآن الكريم التي نزلت قبل الهجرة وبعدها.
*عن موقع (دار السيدة رقية للقرآن الكريم)
|
|