قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
من وحي المبعث النبوي الشريف..
رسالة المستقبل و ثقافة الحياة لإنقاذ البشرية من الجاهلية الحديثة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة محمد الحسيني
لم يُبعث الرسول الأكرم (ص) ليبشر الناس بالموت والعجز والفقر والظلم والدكتاتورية والطبقية والعنصرية وسائر الظلمات التي كانت شعاراً مرموقاً في زمن الجاهلية الأولى، بل كانت رسالة النبي المصطفى رسالة الحياة بكل معانيها الإيجابية والصالحة؛ الحياة فوق البسيطة، والحياة غداً في جنان الخلد لدى الرفيق الأعلى. وقد أمر القرآن الكريم أتباعه بالقول: (لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُـجْرِمُونَ). وقال صلّى الله عليه وآله وسلم: "من لا معاش له لا معاد له". فالحسنات في الحياة الأولى وسيلة الوصول إلى المقام الأحسن في الحياة الآخرة، وقد دعا الله تعالى المؤمنين إلى التطلع إلى هذه الحقيقة، وإلى هذا الجوهر بالقول الكريم: (وَمِنْهُمْ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ ءَاتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الاَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّار)،( وأن الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَأَبٍ(.
بين المبادئ الوضعية والإسلام
إنّ الفرق الرئيس بين رسالات الله وبين المبادئ الوضعية المصاغة من قبل التصورات البشرية ووساوس الشيطان؛ إنّ رسالات الله صادرة عن خالق الكون، وإنها تمتاز بالشمولية. في حين أنّ القوانين والنظريات الوضعية تحاول وتسعى إلى تبرير الأهواء والشهوات، وتغليفها بأغلفة أول صفاتها الكيد والخداع.. فإنّك إذا طالعت الفلسفة اليونانية عموماً، ستجدها قائمة على أساس العنصرية ومصبوغة بصبغتها. فهي -دون ريب- متأثرة أوّلاً وآخيراً بطبيعة الأرض والمجتمع الصادرة عنهما. ولعل المجتمعات والشعوب والحضارات الأخرى التي حاولت اقتباس الفلسفة اليونانية والتشبث بها، قد عانت ما عانت، ودفعت الثمن غالياً، إذ هي لم تأخذ بالحسبان نقاط التفاوت والافتراق بين طبيعتها وثقافتها وتقاليدها، وبين ما تمتاز الأرض والمجتمع والتاريخ في اليونان، هذا بغضّ النظر عن مدى صلاحية ومصداقية أو عقم هذه الفلسفة. ولنأخذ مثالاً آخر من تأريخنا الحديث؛ وهو الثورة الفرنسية، إذ لم تكن سوى تجسيد مباشر لتطلعات الشعب نحو الحرية والديمقراطية. ففعل المنتصرون ما فعلوا، وسقطت الملكية الفرنسية فحسب. ولا يمكن بحال من الأحوال أن نسمي هذه الثورة بالثورة العالمية، فما هي إلاّ ثورة فرنسية اقتصرت على بقعة جغرافية محدودة في زمن محدود، انتهت إلى الإحساس بضرورة خضوع الشعوب الأخرى للسلطة الفرنسية الجديدة. فكانت الصراعات الاستعمارية وإبادة الشعوب وانتهاك الحرمات والمقدّسات. وقد أثبتت لنا التطورات، واثبت لنا التاريخ كيف عجزت المجتمعات المبهورة بهذه الثورة عن اقتباس مبادئ الثورة الفرنسية وتطبيقها لها، وكيف أنّها -تلكم المجتمعات- عجزت حتى عن التمسك بأصالتها، ففقدت الفرصتين، فحلّت فيها الفوضى واستلاب العقل.
ولكنّ مبادئ الرسالة وبصائر الحق التي جاءت في القرآن الكريم وعلى لسان النبي المصطفى ، لا تتأثر بالأرض أو الحتميات التأريخية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والقومية والعنصرية، بل إنّها تهدف إلى خلق إنسان وواقع جديدين، مع احترام كل ما هو إيجابي لدى العقل الإنساني والفطرة البشرية المجردة، التي هي من نعم الله العظيمة. فالنبي الأكرم (ص) حينما كان يخاطب أحد المسلمين الأوائل ويقصد جذبه إلى الدين، كان يعني بالخطاب الإنسان أينما كان، ومتى كان. وإن رسالة الله التي أوحيت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غار حراء الصغير المساحة، لم يكن من طبيعتها أن تكون محدودة بمساحة الغار، ولا بجبل النور، ولا بمكّة المكرمة،ولا بالجزيرة العربية، ولا بزمن دون زمن، بل كانت رسالة عالمية تاريخية مطلقة. وهذا من أوّل الأدلّة على كونها رسالة إلهية؛ ولو كانت من صنع مخلوق، لتأثّرت بصفاته، كالمحدودية بنطاق الزمن والمكان والعنصر، ولكنها كانت رسالة الله إلى الناس جميعاً.
بُعث رسول الله (ص) في مكّة التي كانت مركزاً تجارياً للجزيرة العربية المعروفة بجاهليتها وحروب عشائرها وقبائلها الطاحنة والوحشية، حتى أنّ حرباً من حروبها دامت حوالي ثلاثمائة سنة! كما كانت فيها التقاليد الغبية للغاية؛ كوأد البنات بداعي العار، وقتل البنين بداعي الفقر.. كما كان العرب إذ ذاك يعتقدون بأنّ من تكلّم بغير اللغة العربية فهو أعجمي، تماماً كما يطلقون على الحيوان لفظة الأعجمي. بعث (ص)، في ظلّ هذه الأجواء الجاهلية المقيتة، لتغيير هذه الأجواء، وليس للاستفادة منها. فأكد على عدم الفرق بين الناس، وأنّهم سواسية كأسنان المشط، وأنّ عدالة الرب وقوانينه هي الفيصل بين أولاد آدم. وهكذا الأنبياء الآخرون، ولا سيما أولو العزم منهم، حيث كانت رسالاتهم تخاطب الإنسان لإنقاذه من كلّ دنس، والأخذ بيده نحو كلّ فضيلة.. لقد كانت مهمّتهم هداية البشرية إلى الاعتراف بالخالق وتوحيده، ومن ثم القيام ضد كلّ ما من شأنه الوقوف بوجه الإنسان، ومنعه عن التكامل وصياغة الحياة الصالحة والاستفادة منها.
لقد جاء رسول الله (ص) إلى سكان الجزيرة العربية بادئ بدء، وهم الذين اعتادوا القتل والفقر وشظف العيش، داعياً إيّاهم إلى الإيمان بالله ورسم سياسة الحياة ضمن أصول حيّة.. فهو دعاهم إلى السلم في وقت كانت الحروب تقتل حياتهم، ودعاهم إلى الأخوة والمساواة والعدالة.. بينما كان قانونهم الأوّل هو البقاء للأقوى كما قانون الغاب. وبفضل الإسلام تحول مجتمع الجزيرة العربية إلى واقع رائع من القيم والاخلاق الفاضلة والسلوك الحسن.. قد لا يكاد يصدقه البعض. فأيّ نجاح عظيم هذا الذي حققه الرسول المصطفى بفضل خصوصيات الرسالة الإلهية، في ظل أجواء كانت حتى الأمس القريب نموذجاً لأبشـع أشكال القتل والفرقة والاضطهاد؟. إنّ قيم الرسالة التي حولت ذلك المجتمع، هي ذاتها قادرة على انقاذ البشرية اليوم. ونحن نؤكد على أن الإسلام هو دين المستقبل والحياة، لأن الجاهلية الحديثة ليست بأهون شراً من الجاهلية القديمة. إذ أنّ أكثر من مائتين وخمسين مليون طفل في العالم يستغلون أبشع استغلال في العالم، ويتعرضون لألوان العذاب والاضطهاد، حيث- لا تزال تجارة الجنس والرقيق قائمة. أما العنصرية والحصار الاقتصادي فهي على أوجها في عالم اليوم. أمّا سياسة منع العلم ونشر التقنيات الحديثة عن هذا البلد أو ذاك، فحدّث ولا حرج، حيث يتساقط الملايين من الضحايا جرّاء الجهل والتخلف. والدول الغنية تطلب الدول الفقيرة ما يزيد على مائتين وخمسين مليار دولار، وهذا المبلغ تشكل الأرباح النسبة الكبرى منه. وهذه المآسي العالمية لا تزال في تصاعد متواصل، مادامت البشرية لا تسعى إلى التمسك بكتاب الله الخالد وسنّة النبي وأهل البيت عليه وعليهم الصلاة والسلام. فالبشرية اليوم مدعوّة إلى العودة إلى الحياة، التي بشر الله سبحانه وتعالى عبده ورسوله الأكرم بها، حيث قال: (يَآ أَيُّهَا النَّبِيُّ اِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً * وَدَاعِياً إلى اللَّهِ بِاِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِاَنَّ لَهُم مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً(.