حوار قرآني مع: سماحة السيد جعفر العلوي
سبيل النهوض بالأمة يبدأ بتعزيز الثقافة القرآنية
|
سؤال: منذ وقت ليس بالقصير نشهد في الساحة الاسلامية نوعا مما يمكن أن نصفه بالإبتعاد عن القرآن الكريم ، يتجلى في بعض المظاهر، فما هي البرامج العملية التي يمكن من خلالها إعادة ثقافة القرآن الى الساحة ، او بعبارة اخرى عودة الناس والمجتمعات إلى القرآن الكريم ؟ .
السيد العلوي: إنّ الإبتعاد والإقتراب من القرآن الكريم هي مسألة نسبية تتفاوت من مجتمع إلى آخر ، ومن زمن إلى زمن ، لأنّ الإقتراب من القرآن بشكل كبير لا يتحقق إلا في حالة العصمة ، وهي غير متوفرة ، ومن ثم فإن محاولة الإقتراب هو تكليف للأمة الاسلامية في مسيرتها أن تتخلص من السلبيات ، ويكون السؤال : هل نحن في مسيرة تصاعدية أم تنازلية ؟ . وبلا شك أنّ الأمة الإسلامية في زمن الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) كانت مقتربة من القرآن الكريم بشكل أكبر بتطبيقه في واقعها ، وربما كانت من أفضل النماذج التاريخية ، لكن بعد وفاة الرسول (صلّى الله عليه وآله وسلم) إختلّت المسيرة ، ثم من بعد ذلك أي مروراً بالدولة الأموية والعباسية فقد التوازن أكثر وتأكد ذلك في الدولة العثمانية ثم تلاها مرحلة الإستعمار ، وبدأت في المقابل صحوة إسلامية حمل لواءها عدد من المفكرين ، كأمثال السيد جمال الدين الأفغاني ، حاولت الإقتراب من القرآن مع تنامي الصحوة الإسلامية ، وبرز شعار العودة إلى القرآن الكريم .
هذا في جانب الاقتراب من مضامين القرآن الكريم ( التقوى ) ، أما في جانب الإهتمام العلمي بالقرآن يمكن القول أنّ القرآن الكريم في القرن الأول والثاني والثالث لقي تنامياً في الإهتمام بالجانب العلمي المحض الذي رافق ضآلة الجانب المعنوي ، فنرى نشأة القراءات وإعراب القرآن والغريب في القرآن والتفاسير ، وما شابه ذلك من العلوم حول القرآن الكريم أو حوالي القرآن ، في هذه الحقبة كانت المسيرة متوازية ومتعاكسة ، أي إهتمام في الجانب العلمي وإهمال في الجانب المعنوي ، حتى سقطت الأمة في حضيض التخلف ، ثم في حضيض الإستعمار . ومن ملاحظة الواقع الإسلامي المعاصر ، نرى إدراك الأمة أهمية العودة إلى القرآن الكريم ، فهي قد جرّبت التيارات الليبرالية واليسارية ورأت أن الخلاص في كتاب الله . أما بصدد البرامج العلمية نوجز ذلك ، ولا بد من التنويه أنّ الطريق شاق وطويل ولكنه ليس مستحيلا :
اولاً: القرآن كالشمس يشرق كل يوم على شيء جديد من هنا تأتي الحاجة إلى التفاسير المعاصرة فكل تفسير يحكي مشاكل عصره وتحدياته . ثانيا: تفعيل الحضور القرآني في الخطاب الإسلامي لتعزيز الثقة عملياً بالرؤى القرآنية وقدرته على إيجاد الحل الناجع لمشاكلهم وأزماتهم ، مما يتطلب من الدعاة والمشتغلين بالدعوة إعتماد الآيات القرآنية في خطاب الأمة . ثالثاً: تيسير الحضور القرآني وذلك يكون بتطوير وسائل وأدوات البحث في القرآن ومحاولة نشره على قطاع واسع ، والوسائل الحديثة قد أتاحت ذلك كثيرا . رابعا:: إنشاء معاهد ومؤسسات تحمل عبء المسؤولية القرآنية من التحفيظ والتعليم وإنشاء علاقة طيبة خصوصاً بالنسبة للناشئة ، وينبغي أن ندرك أن سبيل النهوض بالأمة يبدأ بتعزيز الثقافة القرآنية . خامسا: نلحظ وجود تفاوت بين لغة القرآن واللغة المتداولة ، فمن الضروري ردم الهوة بين اللغة المعاصرة ولغة القرآن ، وذلك بتقريب لغة الناس من لغة القرآن ، وليس العكس ، فبدل أن نستخدم المفردات والمصطلحات في شتى الأصعدة نستبدلها باستخدام اللفظ القرآني ، لكي يدرك الناس عند قراءة القرآن آفاق هذه المفردات ومداليلها وعمقها .
سؤال: من المعلوم أن حوزة القائم (عج) التابعة لمرجعية اية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي، والتي لها فروع في سوريا والعراق وغيرها من البلاد كنت مديرها في فنرة من الفترات، تتميز في مناهجها الدراسية بتدريس مادة التدبر في القرآن الكريم ، فما هو تقييمكم لهذه التجربة وانعكاسها على شخصية طالب العلوم الدينية ؟ .
السيد العلوي: يمكن تلخيص أثر ذلك في فاعلية الخطاب الثقافي الذي حمله المتخرجون من هذه الحوزة وحضور الهم النهضوي الإصلاحي والإستعاضة عن الثقافات الرائجة بالرؤى القرآنية وامتلاك معايير منضبطة لترشيد الإنفتاح الفكري ، التجربة جيدة في المتوسط الحسابي ولا سيما أنها سباحة بعكس التيار ونأمل تطويرها ، أما بصدد التأثير على الدارسين للقرآن الكريم ففوائد جمة لا يشك أحد فيها ، خصوصاً المشتغلين بالدراسة الدينية لكن يبقى الحديث عن تجربة عملية شخصية في هذا الحقل . ومن خلال مسيرة الحوزة ألخّص الفوائد في بعدين :
البعد التربوي / اولا: يشكّل تدريس مادة التدبر في الحوزة إحدى مفردات العودة إلى القرآن الكريم ، والتي تحاصر حالة التخلف في البعد عنه، أي تربية عملية على الاقتراب قبل أن يصدأ القلب ، ومن التجارب المؤسفة مثلاً ، التي رصدها الشهيد مطهري، أنه إكتشف متأخراً وفي خارج الحوزة كتاب نهج البلاغة !؟. ثانيا: تعد تربية النفس وإصلاحها من القضايا الأساسية وهي من أهم الوصايا والتكاليف بالنسبة له ، وهذه التربية بحاجة إلى مرآة كاشفة وبصيرة نافذة وخبيرة ومقبولة في آن واحد والقرآن خير ناصح ، ففي عملية التدبر تتكشف للمتدبر خبايا النفس وعقدها وسبل صلاحها وتكون خير فرصة لإصلاح ذاته . ثالثاً: الميزان الفكري لا توفره فقط الدروس الحوزوية التقنية كالأصول والفقه والمنطق والحديث ، إذ إهتمت فقط بإستنباط الأحكام الحلال والحرام ، وبناء التفكير المنهجي والعقلية النقدية ، حتى أصبح لدينا خلو نسبي بما يعرف بالإجتهاد في الثقافة والفكرة قد يملؤه بعض المثقفين غير المتدينين ، صحيح أنّ بعض الحركات الإسلامية حاولت أن تردم هذه الهوة من خلال الفقهاء الذين إهتموا بشؤون النهضة وهم قلّة ، ومن خلال القرآن نستطيع توفير ثقافة إسلامية لطالب العلوم الدينية يستغني بها عن الثقافات الأخرى .
البعد العلمي / اولا: بناء التفكير العلمي سواءً في تنمية القدرة البحثية أو القدرات الذهنية الوظيفية ، فمن جهة التدبر يربّى الطالب على عملية التعامل مع المصادر في عملية البحث والتنقيب ثم على الموازنة والترجيح بين الأقوال المتعددة ، خصوصاً في أقوال المفسرين والنحويين ، وبناء الفرضيات ومن ثم إختبارها من خلال السياق أو آيات أخرى أو الروايات للوصول لرأي مدروس ومقبول منهجياً . ومن جهة أخرى ينمي القدرة على التحليل والتركيب ، إذ أن عملية التدبر تعتمد بدءاً على تحليل السورة إلى آيات ، والآيات إلى مفردات ، والمفردات إلى حروف ، وهكذا فهذه تنمّي عملية التفكير بالتحليل المنضبط ضمن منهج صارم ، ثم يأتي بعد ذلك بتركيب السورة ضمن السياق الذي يربط بين الآيات فهذا يبني بدوره عملية التركيب من التحليل ويكون اتساق العمليتان قرينة الصحة . ثانيا: ينمّي التدبر القدرة على الربط بين العلوم المختلفة المتخصصة ، مثل النحو والبلاغة والصرف والأصول والحديث ، ويكون نموذجاً مثالياً لتداخل العلوم وتكامل الأدوات المنهجية .
سؤال: هنالك من الذين يتدبرون في القرآن الكريم قد يحاولون إسقاط آرائهم الشخصية عليه ، فكيف يمكن الحصانة دون الوقوع في هذا المحظور ؟ .
السيد العلوي: بدءاً الإسقاط المتعمد أو الرأي المتعمد على القرآن ليس له علاج سوى ( فيتبوأ مقعده من النار ) كما جاء في حديث شريف ، أما الحصانة فهي تتحقق ضمن بعدين : الأول : البعد التربوي : حالة إتهام الذات والتواضع وترك الغرور ، لأنّ أقرب الطرق للحق هي التواضع له والتتلمذ والتسليم لكتاب الله ، طلباً للحق لا بحثاً عن الإنتصار لما يرى ، والأهلية العلمية والعملية . الثاني : البعد العلمي : ويلخص بحذف الوسائط مع القرآن ، والتجرّد من المسبّقات سواءً الدلالية ( ليس فقط في الذهنية بل حتى قصر الدلالة القرآنية على كتب اللغة ) أو الثقافية وهي من الصعوبة بمكان لكنه ليس مستحيلاً . وأقرب الطرق هو الإنفتاح على القرآن أولاً قبل التشبّع بالمناهج البشرية لأنها ستكون عالقة في الذهن . كما يجدر تجنب الإنتقائية والعضّية ، بمعنى أننا نجد كثيراً يدخل القرآن للبحث عن أدلة لأفكاره ولا لكي يأخذ من القرآن أفكاراً . كما يجب أن نعمل على إختبار الرؤى المستنبطة بما يلزم منها وتوافقه مع المسلّمات وينبغي الإشارة إلى أنّ السنّة ميزان يحتكم إليه ولا تختصر السنّة في الآيات المفسرة بل تشمل كل ما يتحدث عن الموضوع .
|
|