التشريعات المالية و أخلاقيات الإقتصاد في القرآن الكريم
|
الشيخ ماجد الماجد
النظام الاقتصادي وجه بارز في المنهجية القرآنية، فهو يكفل الملكية الفردية في إطار من الرقابة الشرعية والاجتماعية، ويشجع الناس على العمل والإنتاج وتطوير التجربة الذاتية في الحياة، وبذلك يحافظ على دور المال البنّاء لئلا يتحول إلى صخرة في طريق الحرية الاجتماعية والقيم الدينية.
ويعد الإسلام المال حقا من حقوق الفرد، ولكنه ملك لجميع الناس، وللدين والناس أن يفرضوا الرقابة عليه لئلا يصبح أداة فساد، ولذلك فإن السفهاء يحرمون من حق التصرف في أموالهم، لأنها أموال المجتمع قبل أن تكون أموال السفهاء.، ولأن المال وُضع ليؤدي دور المنظِّم لأنشطة المجتمع، والحافظ لجهود الناس، فإذا استغله صاحبه في الفوضى والفساد والسلبية والسرف فإنه يفقد دوره ويصيب الضرر جميع المجتمع. ولنتصور سفيها اشترى بضاعة بأضعاف ثمنها، فإنه سوف ينشر الخلل في موازين السوق، ومن ثم يصاب الكثيرون من المحتاجين إلى تلك البضاعة بالضرر الفادح.
من هنا فالقرآن يوسع دائرة لفظة السفيه لتشمل كل من يخالف مصالحه الحقيقية حسب الرؤية الدينية ومقياس العرف، ويتعدى معناها بالمناط إلى الغني أو الحاكم الذي يصرف أموال المجتمع على متعه ومصالحه الخاصة ، بينما كان عليه أن يصرفها في بناء المشاريع العمرانية و الإنسانية . و ينصرف لفظ السفيه إلى الترف الذي يشجع الفاحشة، ويبني دور اللهو، وينشر المخدرات، وكذلك المفسد الذي يحتكر التجارة لذاته ويعمل بطريقة أنانية تضر بمصلحة سائر التجار وأفراد المجتمع، وكذلك تنصرف كلمة السفيه إلى العدو الذي يحارب الرسالة و الرساليين.إنهم جميعا يتجاوزون حدهم ويتصرفون في الأموال بما يخالف النظام الذي يستقيم بالمال. يقول تعالى :"ولا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا ". ( النساء/ 5).
والقيام بمعنى النظام أو ما به استمرار الشيء وبقاؤه، والتوظيف من أجل البناء والتطوير، ولا يعني ذلك القول بالمصادرة للأموال لنوقعها في أيدي المنتفعين من هذا القانون ؛ بل وضع رقابة مخلصة تقوم بالتوجيه نحو استثمارها في النفع العام، وتضع الأرباح في حسابهم بعد أن تأخذ من أموالهم قدرا لقاء المجهود الذي بذل. من هنا يقول تعالى :"وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا". (النساء/ 5). واستعمال كلمة (فيها ) بدل (منها) للدلالة على ضرورة صرف هذه الأموال في مصلحة السفهاء.
ويعد القرآن هؤلاء السفهاء مرضى، فيؤكد على الجانب التربوي "قولوا لهم قولا معروفا" حتى لا تتحطم نفسيتهم، وإنما توجيههم نحو الأفكار التجارية السليمة تمهيدا لإصلاحهم، وإعادة أموالهم إليهم بعد ذلك. وأيضا يعد القرآن الربا من المحرمات المنهي عنها، لما فيه من استغلال الضعفاء، وإنهاك اقتصاد المجتمع، لأن الربا يثير شهوة الإثراء السريع، وبذلك يعطل الاقتصاد ويمتص جهود الفقراء ويجعل رأس المال يدور في فلك أناس معينين. فضلاً عن أن الربا يضعف المنافسة الحرة الشريفة، ولهذا جاء تحريم الربا وحلية البيع لأنه يسهم الجميع فيه"وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا"( البقرة/ 275) .
والربا يقيد المال في حدود الفوائد، ويكون المرابي شريكا في جهود الناس دون أن يتحمل معهم خسارة أو يبذل جهدا، وهذه معادلة مفروضة في نظام العولمة الذي يسهم في الإضرار بالجوانب الاقتصادية للبلدان الفقيرة،مما يؤثر في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية وهو ما نعاني منه في الوقت الحاضر، ويثقلنا في المستقبل، مما يفرز التمايز المقيت بين البشرية. فهناك دول العولمة تستأثر بكل خيرات المعمورة، وهناك مجتمعات فقيرة تحتاج إلى أبسط مقومات الحياة، فضلاً عن تراكم الديون والفوائد المتضاعفة، مما يجعل الاستقلال والتقدم يتلاشى في طوفان الديون.
أخلاقيات الاقتصاد في القرآن :
يوجه المنهج القرآني أتباعه إلى التزام المسؤولية وذلك بإيجاد (التقوى ) كوازع داخلي يحفظ الحقوق جميعها ويحافظ على حرمات المجتمع وأبرزها حرمة المال. فالقرآن ينهى عن أكل أموال الناس بالباطل "وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ " ( البقرة/ 188) . سواء بالغصب أم بالغش، أو بالقمار أو التجارة الضارة، أو الربا، وكل ما يعد أكلا بالباطل.ويعد من أشد المحرمات أن يستند الأكل لأموال الناس إلى سلطة الحكام أو بفعل القوانين المشرّعة بالوضع "وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" ( البقرة/ 188) .
ولهذا يدفع القرآن باتجاه دفع الخمس والزكاة من أجل النفع العام ودفع عجلة التقدم. و بدل الربا على الفقراء والمضاربة الحرام في جهودهم يأمر القرآن بالصدقات والمساعدة للمحرومين، وتوفير رأس المال لهم، لأنه سوف يتسبب في تدوير الثروة، وتحريك الاقتصاد، وإنهاء البطالة من تكوّن الصدقات (المساعدات المالية ) في مواجهة الربا."يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ "( البقرة / 276) .كما يرفض القرآن البخل ويعتبره من الأمراض التي تصيب أصحاب الثروة، فالعلاج لا يكون إلا بالإحسان والإنفاق، إضافة إلى أن الثروة المحصورة من دون إنفاق تورث الكراهية والحقد بين أبناء المجتمع."الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ"، ( النساء/ 37) .
ويجعل القرآن العطاء المستحب تعبيرا عن إيجابية النفسية المسلمة ومظهرا من مظاهر الإيمان بالله، ويبارك الله فيه ويجعل العوض على الإنفاق. "مَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " ( البقرة/ 261) .كما يشجع القرآن على التداين والإقراض، فكانت الآية التي نظمت أمر الدَين هي أطول آيات القرآن على الإطلاق، إذ أحاطه بمجموعة من الأحكام والإجراءات التي تحول دون إساءة استغلاله، وتكفل الضمانات الكافية لحفظ حقوق الدائنين والمدينين في آن واحد، ومن ثم لا يعزف الناس عن إقراض المحتاجين."يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ…" (البقرة/ 282) .
|
|