تهزّني كربلاء....
|
*عقيلة آل حريز
تهزني في كربلاء أشياء كثيرة... تغسل روحي كل عام فتجلو بصيرتي وتجدد عهدي وتتداخل في مسامات روحي كهواء أتنفسه. أتوحد معها فأطفئ إضاءات العالم الصاخب حولي، وأتداول وهجي المتدفق منها. تستفزني من الداخل للمشاركة فيها فأحول إنكسار قلبي لدرجة قرب من الله ..
إن أجمل ما تفعله كربلاء فينا هو أقصى ما يمكن أن يفعله الوقت حين يجردنا من الوهم والضياع عندما نسكن في ظلها. فتبدو الاستقامة والمثل العليا كقيم تعتني بنا من الداخل كما الخارج فتضيف لنا وتضفي علينا هالات متوهجة تدلل علينا، إذ لا يمكن طمسها.
ومن الامور الجميلة التي تجعلنا ممتنين لله فيها، فلسفة الصبر على البلاء حين تتحول لدرجة من درجات القرب عند الله. وفلسفة الصبر على المصائب وهي ترسلنا للإيمان واليقين والتسليم بالقضاء، فالله لا يختار لنا إلا ما هو أنسب لأنفسنا وأرفق باحتمالنا نحن البشر الضعفاء، فمنطق الحق والدفاع عنه ورفض الظلم ومقاومته والشهادة كهدف نطلبه. ومنهج التربية ومنطوقها التربوي وأبعاده على أنفسنا وواقعنا بكل أطيافنا. كلها قيم تتراص في وعينا حين نتكامل في دائرة الحضور الجسدي والنفسي ونرتفع في وجه الصراخ والتذمر والحزن والإستسلام البغيض لدحر التهميش والفوضى واللاجدوى.
منظر الأطفال الصغار وهم يكبرون أمامنا كل عام كنباتات خضراء تنتشي بالضوء والماء ليشاركوا في مواكب العزاء بهمة نكاد نستغربها في أوقات أخرى نتوسلها منهم فلا يكادون يجيبونا!
الصبية وهم يلتفون حول مشاركة معينة ويفرحون بتوزيع الأدوار فيها كأن أحداً رفعهم فجأة للسماء و وضعهم تماما بمستوى الغيوم. الفتيات الصغيرات يشحذن هممهن ويتسابقن في تقديم المساعدة وخدمة المجالس بحب وتنافس متحفز يستعجلون المشاركة ويفرحون بها أكثر من استعجالهم لنزول المطر. وكل شيء حولهم يتجاوب معهم في عزف مختلف لهمهمة حزينة رصينة محفزة ، قلبهم وعقلهم وأُسرهم وحتى الناس تستجيب وترتفع بالدعاء لهم.
تهزني لحظة التماثل والإنصات للخطيب يسمعك صدى أدعيته ويؤمن عليها الحضور بنفس واحد تماما كجند يقسمون بالولاء ويحلفون بتجديد العهد. يهزني التوجه الذي يفرضه الحضور كصلاة تعلق القلوب بسحر يبهج الخشوع. والخطيب في ساعات مهيأة يطرق قلبك وعقلك يشحذ همتك ويوسع آفاقك، يدحر عنك غبار الروتين فتستعرض القيم والهمم والأخلاق والفضائل التي جسدتها كربلاء واختصرتها كلها في موقف واحد.... (الشهادة). بينما أنت تبقى هكذا ، ماثلا أمامها تستوعب فكرة الإنتشاء والتمازج مع كل شيء مر بك من سنوات ماضية بشكل مذهل، تمد يدك فتتلمسها في واقعك وتمتن لوجود ثقافة تربوية لملحمة عظيمة تتناولك بالتهذيب كل مرة حتى تصقلك وتشذب الشذرات النافرة وتقلمها كي لا تؤذيك ولا تتجاوزك لغيرك فتطغى. تفعل كل هذا وتستوعبها بإلتفاتة تشبه إلتفاتة جمهور المسرح بطهارة روح حقيقية ونورانية وقلب نظيف وجميل نحو مصدر الصفاء. وتطوف بك مهادنات كثيرة تتوسطك وأنت تقرأ الحدث وتعيشه وتتأمله، تحاور عقلك وتنافش ما يجري معك وقد تتمثل بعضه في برنامج حياتك الذي يمر عليك سريعا كقاطرة ضوء سريع. أو ربما تحملك الأحداث لساحة كربلاء فتعيد شحذك كجزء منها. تختار لنفسك جهة حق تناضل معها فتفوز بالجنة. متأملاً أن يُصلى عليك لتمحو كل الذنوب والأخطاء المتراكمة فوق هالاتك المنطفئة وتعود بعدها لروحك جديداً نقياً بلا شوائب كمن جاء من طواف الحج مغمورا بثناء إلهي.
يهزني في كربلاء كل عام أن أتأملها كحدث جديد يمنحني مكانا آمنا للحياة يتوغل بروحي. يتربع في داخلي، ويبث لي عهدا جديدا يخرجني من فوضى الحياة ورتابتها المملة. فهي تمنحني فرصة للإنصات والهدوء عبر الدعاء الموحد والهمة العالية نفسها التي تلم شملنا كلما تشتتنا. الإعتزاز بالقيم والعقيدة، تجديد العهد، الوفاء والنقاء والمناضلة في سبيل الحق. أرقب منظر الرجال يخرجون بهمة متخففين من أثقالهم وكأن أحداً يجلو عن أبصارهم ظلمة المستقبل. والنساء يلملمن تشتتهن ويتحدن في ترتيل واحد ويمنحن لنا جرعة للحياة. والشباب ينتفضون من ترف السكون كأنه أجلي عنهم فمنحتهم أدواراً حقيقية يؤدونها، يتطوعون ويشاركون ويهتفون وينظمون ويقومون بأشياء كثيرة تدهشنا بفرح حقيقي وولاء ينظمنا حوله في عقد متراصف منظوم.
يهزني الحضور والرغبة في بلورة الأمور. وقدرة مطالعة المجريات في هذا الكون ومد البصر وامتداده، فتمتلئ الزوايا الباردة بأنفاس الناس وتعبأ الأزقة الضيقة المظلمة بنور الحاضرين، وأصوات القراءات تغزو القلوب قبل الأسماع. يسجلها الليل ضد الفراغ ويهزم بها وحشته وحلكته، فتجذبك طوعا إليها بملء الحواس فتغدو جزءاً في منظومة كبرى، وتصغي لهمهمات الكبار والشيوخ وتحتل إيقاعا هي الأخرى في نفسك يسرفون في اللهفة وأمنيات الحضور حين يهبهم الحزن ضوءاً متراسلا يملأ ظلمة الشوارع فيجعلهم فوانيس تتحرك بالإيمان فوق حدبة الليل. نبتسم لأننا نتعلم منهم صيغ الولاء حين نقبض على أسمى معاني الشوق. نجتمع في محفلها بشوق المؤازرة ولو بالحضور عن بعد. ننتصر على البرد بدفء متلبس بالعشق فنضم كربلاء وحسينها إلى صدورنا بلهفة محرقة لها حرارة لا تنطفئ أبدا.
نبقى هكذا في رقة المحنة تجري الدموع من محاجرنا وتمنحنا صفاء متجلي. نذرع الوقت منشغلين بعظمة المصيبة ونمسح العين بتطهيرها بالدموع والقلب بالاشراق والإيمان والروح بالسكينة...
ثيابنا سود وقلوبنا بيض، ونطرق بأسماعنا وكل ما حولنا. يبكي ليستمطر الغمام ونطلب من الله أن لا نعود منها إلا بقضاء حاجاتنا.
*كاتبة من السعودية
|
|