قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

طلب العلم والمعرفة من مصادره الأصيلة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *علي ضميري
حينما سئل أميرالمؤمنين الامام علي عليه السلام عن سبب اختلاف الناس ونشوب الصراعات والحروب بينهم، أجاب: (لتدخل الجهّال). ونفهم من هذه الإجابة وجود اطراد متقابل بين كثرة الاختلاف وحدّة الصراعات وبين حجم الجهل وكثرة الجهال الذين يزاحمون أهل الإختصاص، حيث يتدخلون فيما لايعنيهم.
والعراق قد مرّ في مراحل مظلمة طيلة عقود من الزمن، وخصوصاً العقود الأربعة الأخيرة، فتعرض خلالها للجدب الفكري والتخلف العلمي، حيث منعت عليه مصادر الثقافة الصحيحة، وطورد وحوصر وقتل معظم العلماء ومن يعي مسؤوليته في تعليم الناس وتثقيفهم بثقافة القرآن الكريم ومنهج أهل البيت عليهم السلام.
ولاتزال الصراعات في أوجها بسبب الشحة العلمية والثقافية الحاصلة في الوسط الإجتماعي العراقي، حيث ترى الكثرة الغالبة، تتحدث باسم الدين، أو بالمدعيات الوطنية، أو العشائرية، أو غير ذلك، ولبالغ الأسف، نجدها أحاديث ومدعيات فارغة المحتوى في الغالب لأن المتحدثين يجهلون حقيقة ما يتحدثون به، إذ الدين ليس شعارات رنانة، بقدر ما هو مفاهيم وقيم وممارسة تتطابق معها، كما ان الوطن بدوره ليس وجوداً فضفاضاً يراد منه كسب المزيد من الثروة، واجتذاب أكبر كمية ممكنة من الجماعات المؤيدة، والعشيرة لايفهم منها –على أرض الواقع- إلا التعصّب والتفاخر. في حين كان يفترض لها ومنها أن تكون وجوداً داعماً للأخلاق الأصيلة وخدمة الضعيف والمظلوم وغير ذلك من الأفق الطيّب والأصيل، شأنها في ذلك، شأن جميع الآليات والوسائل الرافدة لتحقيق السعادة والرفاهية للإنسان العراقي في بلاد الرافدين.
هذه الحقائق المريرة وأشباهها ينبغي لنا نحن العراقيين أن نعي خطورة الموقف في حقبتنا الراهنة، ونتوجه إلى مزيد من التعلم وتعويض جميع فرصنا التي فوتها علينا الحكام الذين تعمدوا إضلالنا وتجهيلنا، لأن اكتساب العلم عامل مهم جداً في إخماد نيران الفتن والصراعات ومنها الصراعات الدامية، حيث في العلم حصانة من اختراق العناصر والجهات الضالة والمضلة لأوساطنا وإضلال أفكار شبابنا، ولكن ما هو الشيء والأمر الذي يجب أن نتعلمه أساساً؟
الجواب هو: أن نسعى إلى تعلم كل أمر يوصلنا إلى شاطئ الرفاه والسعادة الدنيوية والأخروية من مصدره الكفؤ والأصيل، فمثلاً؛ يلاحظ أن مستوى الثقافة الدينية لنا نحن العراقيين يعاني الضعف الكثير، وهذا المستوى الضعيف ناتج عن الجهل الرهيب بأهمية اكتساب العلم والتفقه، حتى أن الكثير الكثير منّا من يجهلون أبسط مبادئ مذهبهم، ولايعلمون لماذا ينتمون إلى المذهب الشيعي أو المذهب السني، بل إن منهم من يجهل مجرد أسماء أئمته.. وهو في الوقت ذاته ينادي بمدعيات كبيرة للغاية، ولعله يهاجم أفراد المذاهب والقوميات الأخرى بأشنع أشكال الهجوم.. وهذه الحقيقة وغيرها تشير إلى مدى الازدواجية الحاصلة لدى الأشخاص، ومن أهم أسباب هذه الإزدواجية مستوى وطبيعة الجهل المتفشي في أوساطنا.
بلى... إن الجهل ظاهرة لها أسبابها وخلفيتها التاريخية والسياسية والإقتصادية وغيرها، وأروع شيء للإنسان أن يتمكن من تحديد واقعه الثقافي ومستواه العلمي، لينتقل فيما بعد إلى مرحلة أخرى، وهي اكتساب العلم والنهوض بواقعه الثقافي، حتى يصل إلى مستوى علمي مقبول، يتمكن عبره من التخلص من كثير من الاختلاف والفتنة والضرر، وقد ورد عن إمامنا جعفربن محمد عليهما السلام: (العالم بزمانه؛ لاتهجم عليه اللوابس).
ولعل من أقسى وأقبح أنواع الجهل؛ أن لايعرف الإنسان حدوده وصلاحيته، وهذه الحقيقة لها نماذجها ومصاديقها في الواقع العراقي عموماً، حيث أن استشراء الجهل في بلادنا أدى إلى تعاظم عدد ادعياء الثقافة فترى كلّ من هبّ ودبّ يجعل نفسه مصدراً مهماً، أو لعله يتجرأ على ادعاء كونه مصدراً وحيداً وركناً ركيناً في الدين والثقافة الإسلامية الأصيلة، وذلك بعد استيلاء الظن الكاذب عليه بأنه قد تعلّم شيئاً، وهو يبطن أنواع الحرص والأنانية والنظرة المادية والمصلحية لكل شيء. بينما الفقيه الحقيقي هو الذي لايدفع الناس إلى معصية الله، ولايقحمهم في اليأس من رحمة الله، وهو بدوره لايأمن مكرالله، ولا يهجر كتاب الله، وينكبّ على مصادر الثقافة الباطلة. بمعنى أن الفقيه والعالم الصادق، هو المقترنة أقواله وأفعاله بقيم القرآن وتعاليمه.
وليس من ريب أن قيمة التوحيد من أهم قيم القرآن المجيد. وتوحيد الله تعالى هو رفض الشريك في وجوده سبحانه، والتوحيد في رفض من يزاحمه في التشريع لخلقه، بمعنى أنه تعالى واحد لاشريك له وجوداً وتشريعاً. فكيف – والحال كذلك- يتأتى للإنسان الجاهل الضعيف أصلاً أن يتجرأ على منح نفسه الصلاحية في تفسير القرآن برأيه، وإصدار الأحكام للناس بما يملي عليه هواه، دون أن يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله ومنهج أهل البيت؟
ولعل من أهم أركان الإيمان برسول الله صلى الله عليه وآله، وبالأئمة المعصومين سلام الله عليهم، والاعتقاد بأنهم خلفاء الله في ارضه، وأنهم لاينطقون من عند أنفسهم على سبيل الاستقلال، وانما جميع ما لديهم هو من عند الله، و واقعهم المقدس هذا الذي يتفوقون به على سائر الناس هو الذي يجعلهم أرقى مرتبة من جميع الناس، بل هو الذي أهلّهم إلى أن لايقاس الناس بهم أبداً.
وقد حضّ الأئمة الاطهار الناس على التفقّه وفهم الدين على حقيقته، ولعل حديث الامام الصادق عليه السلام يكون دعوة وتحذيراً في آن: (ليت السياط على رؤوس اصحابي حتى يتفقهوا في الدين)، لأن الفقه مفتاح البصيرة والعبادة التامة، والعلة في نيل مراتب العظمة للدين والدنيا، ولأن فضل الفقيه على العابد، كفضل الشمس على النجوم، ولأن من لا تكن له معرفة في الدين لن يتقبّل الله منه عملاً. وقد قال الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله في فضل المعرفة في الدين: (ما عبد الله بأفضل من المعرفة في الدين). كما قال صلوات الله عليه وآله: (من أراد الله به خيراً، فقّهه في الدين، وزهّده في الدنيا، وعرّفه عيوبه). بمعنى ان من لم تكن له معرفة في دين الله، الذي هو منهج الحياة الصحيح، لن يصيب خيراً في دنياه ولا آخرته. وطبعاً، ليس المقصود بالتفقه بالدين هو التعرف إلى الأحكام الشرعية الخاصة بتفاصيل العبادة لوحدها، رغم الأهمية الكبرى لها، إنما المقصود الأشمل والأتم للتفقه، وهو معرفة القيم والمفاهيم الدينية في مختلف مناحي الحياة، كالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، والمنهج السياسي والرؤى الإجتماعية والنفسية وعدم التقوّل على الله عز اسمه.
وهذه جميعاً ينبغي الالتجاء في معرفتها، إلى المصادر الحقيقية لها، وهي القرآن الكريم الذي شرحه وفصّله النبي وآله الأئمة الطاهرون دون غيرهم.. لأنهم هم الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، بمعنى أنه جعلهم معصومين عن الزلل والشبهة والخطأ في التعلّم عن الله، وتعليم خلقه بما يريد هو وليس غيره. وقد قال الإمام الباقر عليه السلام لرجلين: (لو شرّقتما أو غربتما؛ ما وجدتما علماً صحيحاً إلا وقد خرج عنا نحن أهل البيت).
إن تعلّم العلم من مصادره التي جعلها الله تعالى لخلقه، لا يفيد الإنسان في مضاعفة معلوماته، وشحذ قدرته على الاستنتاج فحسب، وإنما سيمهد له هذا النوع من التعلم، باكتساب التقوى وتنمية الروح الزاكية، وسيلهمه القدرة على تفعيل الأخلاق الفاضلة. وهذه المكتسبات المقدسة هي التي ستضمن له شرعية وصحة الاستفادة مما تتعلم من العلوم وهي التي سترشده إلى طرق الخير ووأد الشر والقضاء على الفتن وإرادة الشيطان.
أما الجاهل؛ أو الذي يأخذ العلم عن غير مصدره الجدير، فهو الذي يجيب قبل أن يسمع السؤال، وهذا دليل الغرور والتكبّر والتبجّح ومصادرة آراء الآخرين، وهو بذلك يحكم بما يجهل، وهذا من تجروئه على العلم وأهل العلم الحقيقيين.
نعم... إن الضرورة القصوى في التعلّم تبرز في هذا العصر الذي كثر الناعقون فيه، وتضاعفت المؤامرات واشتدت على الشعوب، وتكالب فيه الضالون كالوهابيين والإعلاميين التابعين لدوائر القوى الأجنبية، لأن هؤلاء هم أساس الفتن ومؤججوا الصراعات والعنف والحروب، وهم لسانها، ولا يبالون في حجم الثمن الذي ندفعه نحن الذين طالما تعرضنا للحرمان والظلم والاضطهاد الثقافي، مما يستدعي بنا مزيداً من الاهتمام بالتعلم.
كما يفرض على العلماء والمتعلمين إظهار علومهم وتسخيرها، خدمةً للناس ومحبي أهل البيت عليهم السلام، دون الاكتفاء بالتنظير وانتظار الآخرين ليقصدوهم ويأتوا إليهم، بل المفترض- في ظل عصر المؤامرات الفكرية والثقافية هذا- أن يخرجوا للناس ويبيّنوا لهم ويعملوا على توعيتهم ولو كلّفهم هذا أفدح الأثمان.. خصوصاً وأن الساحة العراقية والإسلامية عموماً قد أصبحت على شفى حفرة من الاكتساح والانهيار.