العقل و الحدود الآمنة للتفكير
|
*انور عزّالدين
كما هي غريزة الانسان في حب البقاء، فانه كذلك محب للذات والاعتداد بالنفس، ومحاولاً في معظم مراحل حياته ان يحقق ذاته وشخصيته في الحياة، وهذا لن يكون إلا بوسيلة كبيرة وعظيمة قادرة على تجسيد مكنوناته وتوجهاته ألا وهو (العقل) العنصر الاساس في كيان الانسان، وقد عُد الحاسة السادسة بعد الحواس الخمس المعروفة، ولم يكن في زمرة تلكم الحواس بدايةً، كونه يتميز بطابعه المعنوي وليس المادي مثل حاسة السمع او البصر او التذوق او اللمس والشمّ، واذا كانت مدارك هذه الحواس لاتتجاوز محيط الانسان، فان حاسة العقل تحمله الى حيث التبصّر في الاعماق والتطلّع الى الآفاق، لذا نرى الجميع يسعون للتسامي والتكامل في المجالات كافة من خلال العقل، كل ذلك يتعلق بشرط واحد؛ هو كيفية الاستفادة من هذه الحاسة – النعمة الالهية.
واذا سلمنا بأن العقل الانساني مخلوق ذو إمكانات جبارة بالنسبة الى سائر المخلوقات والموجودات، لكنه في الوقت ذاته محكوم بقوانين وسنن ينبغي السير وفقها. وبغير ذلك يكون مخلوقا عديم الأهمية، بل ويمكن أن يكون وبالاً على صاحبه. تماما كتلميذ المدرسة الابتدائية الذي يسعى الى حلّ المسائل الرياضية الخاصة بالمرحلة الجامعية وهو لمّا يتقن مسائل مرحلته بعد، فتراه بالاضافة الى عجزه عن حلها، يضيّع ما كان يحفظه من مسائل أولية تعلمها في المدرسة. أو كذاك الذي باستطاعته حمل ثقل بوزن خمسين كيلوغرام – مثلاًَ- ولكنه يتعمد القفز على حجم قدرته البدنية ليحمل مائتي كيلوغرام، متغافلا عن أنه يحاول تحقيق المستحيل، وعن أنه سيسبب لنفسه كارثة في عموده الفقري ؛ حيث سيكون عاجزا فيما بعد عن حمل حتى بضع كيلوغرامات .
هكذا الانسان، إذا اراد ان يتكلف علماً لم يبلغه عقله، فانه ليس فقط لايستطيع أن يحيط بذلك العلم، وانما قد ينسى حتى علومه السابقة، لانه اعتمد مقاييس غير صحيحة عن طريق التطور، وهذه المقاييس من شأنها أن تؤثر على مجمل أفكاره وما كان يتمتع به من مستوى فيما مضى. إذن؛ التطلّع نحو العلم يتطلب توفر مساحة عقلية مناسبة له. فكما أن المحدودية الذهنية تعيق عملية الحصول على العلوم المتطورة، كذلك سعة الافق الفكري والعقلي قد يكون وبالاً على صاحبه اذا لم يستغله في مساحته المناسبة له.
وهنـاك العديد من الفلاسفة الذين حاولوا بعقولهم المجردة أن يقفزوا على حاجز الغيب، وهم قبـل ذلك كانوا قد عجزوا عن حل أبسط المسائل الطبيعية التي يفهمها الناس العاديون، وذلك لان تركيبة عقولهم كانت قد اهتزت وفسدت. ومن ذلك ؛ ان فلاسفة اليونان كانوا يعتقدون بأنه لا يمكن للسماء ان تتبدل او تتغير وأن السماء التي نراها هي من عالم فوق عالم المادة، ثم كانوا يقولون أن النجوم والكواكب بمثابة مسامير فضية تثبّت السماء... ! وكان (أرسطوطاليس) يقول بأن الرجل أرفع درجة من المرأة، وذلك لأن عدد أضراسه اكثر من عدد أضراسها. وهذا الاعتقاد في عصرنا الحاضر يثير السخرية والاستهجان.
البحث بالعقل المحدود عن اللامحدود
ومن اكثر ما شغل الفلاسفة قديماً والمفكرين حديثاً، مسألة الخالق وماهيته وكيف يكون...؟! وبالنتيجة، لماذا العبادة والطاعة؟ وغيرها من الامور العقائدية التي تنسحب على مفاهيم من قبيل الجزاء والقدر والعلم، ويحرص البعض على خوض هذا المجال الفكري وبأي طريقة كانت للفوز بالمعارف التي استعصت على آخرين. لكن مجرد تكلّف عناء البحث في ذات الله المقدسة، يؤدي الى الضياع والضلال. والمفارقة ان هذا البعض في الوقت الذي عجز عن مجرد إحصاء آيات الله تبارك وتعالى في الحياة، حاول معرفة الذات الالهية فشطّ به في الفكر حتى قال: ان الله جاهل...! وذلك لأنه تجاهل أمر مخلوقاته، حيث تركها وشأنها حتى أصبح جاهلاً بها! ثم قال البعض الآخر: إنه عاجز عن عمل شيء بسبب كبريائه وعظمته التي تمنعه من التدخل في أمر المخلوقات بعد أن فرغ من خلقها: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ يدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ" (المائدة /64). فيما البعض الآخر ادّعى بأن الله يعلم الكليات فحسب دون التفاصيل والجزئيات، لأنها لاتليق بعلمه. فهو يعلم أن الخير خير، والشر شر، والحق حق، والباطل باطل، دون التفاصيل التطبيقية للخير والشر والحق والباطل!
المشكلة بدأت عندما أرادوا ان يقيسوا ربهم بعقولهم وقابلياتهم المحدودة. قال الامام ابو عبد الله الصادق عليه السلام: (ولو أن النملة أرادت أن تصور الله لصورت له قرنين). علماً بأن اليهود رسموا صورة الله على هيئة رجل كبير السن ذي لحية بيضاء طويلة كصورة الاحبار والرهبان، وقالوا: هذه صورة الله...! – تعالى الله- في حين كان جديراً بهم ان يسبروا غور المخلوق بدلاً من التكلّف في البحث عن الخالق.
ولا أشك بأن الدهريين الذين أنكروا وجود الله سبحانه وتعالى، إنما أنكروه لأنهم أرادوا إلهاً يحسونه بأيديهم ويخضعونه لتجاربهم الحسية والعقلية البسيطة. وإذ لم يتسنَّ لهم ذلك قالوا بعدم وجود إله مطلقاً، ولوكان ثم إله لرأيناه ولمسناه!
لقد نهى الاسلام عن التفكر في ذات الله عزّ وجلّ، وكيف يعطي؟ وكيف يأخذ؟ وكيف يعلم؟ فهذه تساؤلات خاطئة حينما تستخدم في مجال الفعل الالهي، إذ هي تترادف بشكل مباشر وفعل المخلوق، اضافة الى إنها عملية تشبيه وتصوير للقدرة الالهية، والتشبيه بدوره يؤدي الى الجحود والانكار. وقد جاء في الحديث إن رجلا قال لأمير المؤمنين عليه السلام: صف لنا ربنا مثلما نراه عياناً لنزداد له حبا وبه معرفة...! فغضب أمير المؤمنين وخطب في الناس خطبة مفصّلة جاء فيها: (فانظر أيها السائل: فما دلَّك القرآن عليه من صفته فاْئتم به، واستضئ بنور هدايته، وما كلَّفَك الشيطان علمه مما ليس في الكتاب عليك فرضُه، ولا في سنة النبي صلى الله عليه وآله وأئمة الهدى أَثرُه، فَكِلْ علمه الى الله سبحانه، فان ذلك منتهى حق الله عليك....).
الرسوخ في العلم.. العرفان
ثم يضيف الامام عليه السلام: (واعلم يا عبد الله؛ إن الراسخين في العلم هم الذين أغناهم الله عن الاقتحام على السدد المضروبة دون الغيوب إقرارا بجهل ما جهلوا تفسيره من الغيب المحجوب فقالوا : آمنا به كل من عند ربنا).
إذًا فهناك أمور غيبية تقف دون الوصول اليها سدود، في حين نرى الانسان العاجز عن إدراك ماهية ذاته يحاول اقتحامها بجهل. وفي ذات الوقت مدح الله تبارك وتعالى اعتراف بعض عباده وهم (الراسخون في العلم) بالعجز عن تناول ما لم يحيطوا به علماً، وتركهم التعمق فيما لم يكلفهم البحث عن كنهه. قال ربنا عز وجل: "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآَّ اُوْلُواْ الأَلْبَابِ" (آل عمران /7).
وعلى ذلك؛ يمكن القول بأن الرسوخ في العلم هو التوقف عن البحث في الامور التي يعجز العقل عن بلوغها. وإذا ما سُئل أحد الراسخين في العلم عما يجري في السماء السابعة - مثلاً - في الوقت الحاضر، فإنه لا يجد حرجاً في الإجابة بأنه لا يعلم، فهو لا يعلم من هذه الامور إلاّ ما أطلعه القرآن الكريم والرسول المصطفى صلى الله عليه وآله عليه. وهذا يعني ويؤكد أن الراسخين في العلم يعرفون تمام المعرفة أين تقف أقدامهم من مواقع المعرفة، وفي ذلك تعبير عن شموخهم وتفوقهم على غيرهم ممن التبست عليهم الامور فراحوا يصورون لأنفسهم الخيال والخرافة على هيئة الحقيقة. وقد نقل عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال : (وانقطع دون الرسوخ في علمه جوامع التفسير..). وعبر ذلك يريد أمير المؤمنين عليه السلام القول بأن الراسخ في العلم يعطي للعلم حق قدره.
ولقد سأل أحد الزنادقة الامام الصادق عليه السلام قائلاً : ما هو الله ؟ فأجاب : ... هو شيء بخلاف الاشياء... لا تدركه الاوهام ولا تنقصه الدهور ولا يغيّره الزمان. وفي رواية أخرى عن ابي جعفر الباقر عليه السلام أنه قال لزياد - وهو من أصحابه - : يا زياد إياك والخصومات، فإنها تورث الشك وتحبط العمل وتردي صاحبها، وعسى أن يتكلم الرجل بالشيء لا يغفر له. يا زياد ؛ إنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكّلوا به، وطلبوا علم ما كفوه حتى انتهى بهم الكلام الى الله عز وجل فتحيروا، فإن كان الرجل ليدعى من بين يديه فيجيب من خلفه، أو يدعى من خلفه فيجيب من بين يديه.
فهذا الانسان الذي يعجز عن استيقان ما سيأكله غدا من طعام، كيف يتجرأ على التفكير في ذات الله وهو الذي لا تنقصه الدهور ولا تغيّره الازمان. إن في ذلك لدلالة كبرى على ان المقتحم لمثل هذه الاسوار لا يكنّ في نفسه ذرة إحترام للعلم، وهو جدير بأن يطرد من ساحة العلماء الذين يعرفون ماذا يبحثون من علوم كُلِّفوا بالتنقيب عنها. فالله لا يكلف نفسا إلاّ وسعها.
|
|