في ذكرى وفاته (رضوان الله عليه)
العلاّمة الحلي .. النبوغ العلمي يفرض نفسه
|
*نجاح عبد الرزاق
كثيرة هي الاسماء اللامعة في سماء العلم بتاريخنا الاسلامي. من مؤلف ومحدث ومفسر واستاذ ومؤسس، وكلهم علماء دين خاضوا عباب العلوم الدينية، فانتجوا وأثمروا، وماتزال الحوزات العلمية مدينة في مناهجها لمنجزاتهم ومؤلفاتهم، امثال الشيخ الطوسي والشيخ الصدوق والشيخ الانصاري والشيخ المفيد وغيرهم كثير. لكن يقف بينهم نجمٌ لامع يحمل لقب (العلامة) وجاءه وهو يشق طريق العلم والمعرفة، غير عابئ به، فجاهد وخاض سوح العلم والاخلاق، ولم يقتصر على دراسة الحلال والحرام، إنما خبر علوم الحديث والتفسير والمنطق والكلام، كما أحسن وأبدع في فن المناظرة والمحاججة المفحمة التي غيرت مصائر وعقول. ومن نبوغه وحدة ذكائه ان بلغ مرحلة الاجتهاد وهو لم يتجاوز السادسة والعشرين من العمر. وفوق كل هذه المنزلة العلمية كان في غاية التواضع والورع والتقوى.
انه جمال الدين أبو منصور الحسن بن سديد الدين يوسف بن زين الدين عليّ بن مُطهَّر الحلّيّ. عُرف بـ (العلاّمة)، ولم يُطلَق هذا اللقب على أحد قبله.
أرّخ مولدَه والده الشيخ سديد الدين يوسف بليلة الجمعة في الثلث الأخير من ليلة 27 شهر رمضان سنة 648 للهجرة. نشأ في بيئة طيّبة عُرفت بالعَراقة في العلم وسموّ المراتب، وترعرع في أجواء المعرفة والفضيلة. فقرأ على خاله المحقق الحليّ (صاحب شرائع الاسلام)، ومِن قبله على والده، وعلى السيّد جمال الدين أحمد بن طاووس وأخيه السيّد عليّ بن طاووس، وعلى جماعة كثيرة من العامّة والخاصّة، ففرغ من تصنيفاته الحِكمية والكلاميّة وأخذ في تحرير الفقه قبل أن تكتمل له ستّ وعشرون سنة، وبذلك أصبح متقدّماً على أقرانه، وكان معروفاً بالنبوغ الذهنيّ، فانتقلت إليه الرئاسة الدينيّة والريادة في التدريس والفُتيا بعد وفاة خاله المحقّق، فعمل على تطوير المناهج العلميّة في الفقه والأصول.
أمّا في أخلاقه وتقواه. فقد قال السيّد محمّد مهدي بحر العلوم: إنّه مع ذلك - أي مع علمه الوافر- كان شديدَ التورّع، كثير التواضع، خصوصاً مع الذريّة الطاهرة النبويّة، ويقصد السادة من ذرية الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله، و وصفه الباحث الرجاليّ الميرزا عبدالله الأفندي الإصفهانيّ بقوله: وكان من أزهد الناس وأتقاهم.
مكانته العلميّة
يقتضينا الإنصاف هنا أن نرجع إلى أهل الاختصاص وأصحاب الخبرة.. ممّن تتلمذ على هذا العالم، أو عاصره، أو اطّلع على شؤونه وتفحّص مؤلّفاته. وقد رأينا المكانة العلميّة للعلاّمة الحليّ واضحة في خمسة أوجه، نعرضها على هذا النحو:
أوّلاً: أقوال العلماء فيه، فقد استأثر باهتمامهم، ووصفوه بأوصاف عالية سامية، منهم على سبيل المثال:
1- الحُرّ العامليّ. قال عنه: فاضل، عالم، محقّق مدقّق، ثقةٌ، فقيه محدّث متكلّم، ماهر جليل القدر عظيم الشأن رفيع المنزلة.
2- الشهيد الأوّل. عبّر عنه بأنّه: أفضل المجتهدين.
3- الشهيد الثاني. مدحه فقال: لسان الحكماء والفقهاء والمتكلّمين.
4- الشيخ البهائيّ. أطراه قائلاً: الشيخ العلاّمة... كان حامي بَيضة الدِّين، وماحي آثار المفسدين، مُتمّم القوانين العقليّة، وحاوي الفنون النقليّة، مجدّد آثار الشريعة المصطفويّة، محدّد جهات الطريقة المرتضويّة.
5- الشيخ عبّاس القمّي. ذكَرَه بخير، وأورد نصوص العلماء في مدحه، وأثنى عليه في كتابَيه: سفينة البحار، والكُنى والألقاب.
وللعلاّمة الحلّيّ ذِكر جميل في غير واحد من كتب التراجم القديمة والحديثة مثل: منتهى المقال، ورجال الاستراباديّ، وجامع الرواة للأردبيليّ، والمستدرك للميرزا النوريّ، ونقد الرجال للتفريشيّ، وتأسيس الشيعة لفنون الإسلام للسيّد حسن الصدر، وتنقيح المقال للمامقانيّ، وأعيان الشيعة للسيّد محسن الأمين، وروضات الجنّات للخوانساريّ.. وغيرها كثير.
ثانياً: لم يتّفق لأحدٍ من العلماء قبل الشيخ جمال الدين الحسن الحلّيّ أن لُقّب بالعلاّمة، فهو أوّل من أحرز هذا اللقب، وقد انتزعه من إعجاب العلماء بمعارفه. حيث تألّق ذكره في الآفاق، وسطع نجمه في سماء العلم، وسمت مكانته بين العلماء. من هنا يكون لقبه ذاك بمثابة وسام علميّ يشير بوضوح إلى منزلته العلميّة الرفيعة. وممّا يُذكر أنّه قد نال هذا اللقب الفاخر بعد مناظرة مشهورة له في مجلس السلطان الجايتو خُدابَنْدَه، إذ كشفت تلك المناظرة عن ذهن وقّاد وعلم زاخر وفهم وافر، ودقّة مدهشة واستحضار غريب. وعلى أثر ذلك مُنح هذا اللقب ارتجالاً، ثمّ ما لبث أن لازمه واختصّ به.
ثالثاً: ممّا امتاز به العلاّمة الحلّيّ أنه درس عند بعض علماء المذاهب الأُخرى. خالطهم وحاجَجَهُم احتجاجاً علميّاً هادئاً، فاطّلع على ما عندهم، من جهة، ومن جهة أُخرى عرّفهم بما عنده. فاستمرّ في مناظراته معهم على إدراك وتثبّت ودقّة وبصيرة، حتّى فرَضَت مكانته العلميّة نفسَها على مُخالفيه، فلم يتعدَّوه إلاّ بعد الثناء عليه والإقرار بفضله وفضيلته. كان منهم: ابن حَحَر العَسقلانيّ المعروف بناصبيته وعدائه للشيعة وهو صاحب كتاب (الصواعق المحرقة في الرد على اهل البدع والزندقة)، لكنه يعرّف العلاّمة الحليّ بانه: عالِم الشيعة وإمامُهم ومصنّفهم، وكان آيةً في الذكاء. شرَحَ مختصر ابن الحاجب شرحاً جيّداً سهل المأخذ غايةً في الإيضاح. اشتهرت تصانيفه في حياته. وكان ابن المطهَّر مشتهر الذِّكر حَسَن الأخلاق.
ومنهم ايضاً: أبو المحاسن يوسف بن تَغري بَرَدي الأتابُكيّ. عرّفه بأنّه: شيخ الرافضة، ثمّ قال: كان عالماً بالمعقولات، وكان رَضيَّ الخلُق حليماً، وله وجاهة عند خُدابَنده ملك التتار، له عدّة مصنّفات. ومنهم خير الدين الزِّرَكْليّ. قال: يُعرَف بـ (العلاّمة)، مِن أئمّة الشيعة وأحد كبار العلماء.
رابعاً: مؤلّفاته، وهي وجه آخر من وجوه منزلته العلميّة، ودليل واضح على مكانته السامقة وآفاقه الرحبة وبراعته النادرة. وكانت محطّ اهتمام العلماء من عصره إلى يومنا هذا: تدريساً وشرحاً وتعليقاً، واستفادة في موارد كثيرة. وهي تصنف بعدة مراتب: وهي المطوَّلات وتضم ثلاثة كتب لا يُشبه واحدٌ منها الآخر (المختلف)، وكر فيه أقوال علماء الشيعة وحججهم. (التذكرة)، وذكر فيه خلاف علماء العامّة وأقوالهم. (منتهى المطلب)، وذكر فيه آراء جميع مذاهب المسلمين في الفقه، وهو يُعدّ من كتب الفقه المقارن. ومن المتوسِّطات من تآليفه كتابان هما: (القواعد)، وكان ولا يزال شغل العلماء في تدريسه وشرحه. (التحرير) وقد جمع فيه أربعين ألف مسألة. أما من المختصرات ألّف ثلاثة كتب هي: (إرشاد الأذهان)، و (إيضاح الأحكام)، و (تبصرة المتعلمين)، لتعليم المبتدئين. وفي أُصول الفقه ألّف العلاّمة الحليّ مطوّلات ومتوسّطات ومختصرات، كانت محلَّ اعتناء العلماء.. ففي المطوّلات له كتاب ( النهاية )، والمتوسّطات ( تهذيب الأحكام ) و (شرح مختصر ابن الحاجب )، والمختصرات ( مبادئ الوصول إلى علم الأصول ).
وبرع في الحكمة العقليّة، حتّى باحَثَ الحكماء السابقين في مؤلّفاتهم وأشكَلَ عليهم، وحاكَمَ بين شُرّاح (الإشارات) لابن سينا، وناقش نصير الدين الطوسيّ، وباحث ابن سينا وخطّأه. وألّف في أصول الدين وفنّ المناظرة وعلم الكلام والمنطق، والطبيعيّات والإلهيّات والحكمة العقليّة. كما ألّف في الردّ على المنحرفين، وله في الاحتجاج مؤلّفات كثيرة. وتقدّم في علم الرجال وألّف فيه المطوّلات والمختصرات، إلاّ أنّ بعض مؤلّفاته فُقد ولم يُعثر إلاّ على الخلاصة. وتميّز في علم الحديث وتفنّن في التأليف فيه وفي شرح الأحاديث، إلاّ أنّ ما ألّفه في ذلك فُقد. ومَهَر في علم التفسير وألّف فيه وفي الأدعية المأثورة وعلم الأخلاق.
واختُلف في عدد مؤلّفاته، وقد أُحصي له مئة وعشرون كتاباً، وذكر الطريحيّ في مادّة (علم) من كتابه (مجمع البحرين ) أنّه رأى 500 مجلّد بخطّه، فيما يذكرآقا بزرك الطهرانيّ في (طبقات أعلام الشيعة) في الجزء الموسوم بـ (الحقائق الراهنة في المئة الثامنة) عن بعض شرّاح التجريد أنّه بلغ أسماء تصانيف العلاّمة الحليّ نحواً من ألف عنوان. وربّما يُقصد من ذلك الفصول والأبواب.
من روائع المناظرات
خامساً: مناظراته، ولابدّ مِن مِثل العلاّمة الحليّ أن يُناظِر ويناظَر، ويُناقِشَ ويُناقَش. ولابدّ إلى مِثله تُوجّه الأسئلة، ومن مثلِه تُنتظر الأجوبة. ومن هنا نُقل أنّ للعلاّمة الحليّ جَرَت احتجاجات كثيرة، بعضها رُويت وبعضها كتبها هو بنفسه.
وكان من رائعات مناظراته ما ذكره الشيخ محمّد تقيّ المجلسيّ – والد صاحب البحار- في شرح من لا يَحضُره الفقيه (روضة المتّقين) في قصّةٍ خلاصتها أنّ السلطان (الجايتو) المغولي في ايران غضب على إحدى زوجاته فطلّقها ثلاثاً، ثمّ ندم فسأل العلماء فقالوا: لابدّ من المُحلِّل، فقال: لكم في كلّ مسألة أقوال، فهل يوجد هنا اختلاف؟! قالوا: لا، فقال أحد وزرائه: في الحلّة عالِم يُفتي ببطلان هذا الطلاق. فاعترض علماء العامّة، إلاّ أنّ الملك قال: أمهِلوا حتّى يَحضر ونرى كلامه. فأحضره، فكان من العلاّمة الحلّي أن دخل وقد أخذ نعلَيه بيده وجلس...! فسُئل عن ذلك فقال: خِفتُ أن يسرقه بعض أهل المذاهب كما سرقوا نعلَ رسول الله صلّى الله عليه وآله...!! فقالوا معترضين: إنّ أهل المذاهب لم يكونوا في عهد رسول الله، بل وُلدوا بعد المئة من وفاته فما فوق. فقال العلاّمة الحليّ للملك: قد سمعتَ اعترافهم هذا، فمِن أين حَصَروا الاجتهاد فيهم ولم يجوّزوا الأخذ من غيرهم ولو فرض أنّه أعلم ؟! سأل الملك: ألم يكن واحدٌ من أصحاب المذاهب في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله ولا في زمن الصحابة ؟ قالوا: كلا، فقال العلاّمة: ونحن نأخذ مذهبنا عن عليّ بن أبي طالب وهو نَفْس رسول الله صلّى الله عليه وآله وأخوه وابن عمّه ووصيّه، ونأخذ عن أولاده من بعده.
عندها سأله الملك عن الطلاق بالثلاث، فأجابه العلاّمة: باطل، لعدم وجود الشهود العُدول. وجرى البحث بينه وبين العلماء حتّى ألزمهم الحجّة جميعاً، فتشيّع الملك (الجايتو) وخطب بأسماء الأئمّة الاثنَي عشر في جميع بلاده، وأمر بضرب السكة بأسمائهم عليهم السّلام، وأمر بكتابتها على جدران المساجد والمشاهد.
وفي رواية أخرى.. أنّ الملك أحضر علماء الشيعة، فأهدى العلاّمة الحليّ له كتاب (نهج الحقّ وكشف الصدق) و ( منهاج الكرامة )، فأمر قاضي قضاته نظامَ الدين أن يناظر العلاّمة الحليّ، وهيّأ لذلك مجلساً عظيماً مشحوناً بالعلماء، فأثبت العلاّمة بالبراهين القاطعة والدلائل الساطعة خلافة أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام، بحيث لم يبقَ للقاضي مجال للمدافعة والإنكار، بل شرع في مدح العلاّمة مستحسناً أدلّته قائلاً: قوّة هذه الأدلّة في غاية الظهور، أمّا حيث إنّ السلف سلكوا طريقاً فاللازم على الخلف أن يسلكوا سبيلهم؛ لإلجام العوامّ ودفع تفرقة الإسلام، أسبلوا السكوت عن زلل أولئك، ومن المناسب عدمُ هتك ذلك الستر. فدخل السلطان وأكثر أُمرائه الحاضرين في المجلس ذلك في مذهب الإماميّة، ثمّ أمر في تمام ممالكه بتغيير الخطبة وإسقاط أسامي غير الأئمّة عليهم السّلام وبذكر اسم أمير المؤمنين وسائر الأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين على المنابر، وبإعادة (حيَّ على خير العمل) إلى الأذان.
يقول الشيخ آقا بزرك الطهرانيّ: وفي عصر العلاّمة الحلّيّ استبصر السلطان (خدابنده) وتشيّع، وضرب النقود باسم الأئمّة عام 708 هجريّة، وأُعطيت بعض الحريّات الدينيّة التي كان العبّاسيّون يمنعونها. وفي عصره أيضاً عادت الحلّةُ إلى مكانتها العلميّة القديمة، فازدهرت فيها المدارس بعدما عانت من الاضطهاد مُدداً طويلة، ومنها كانت تستقي (المدرسة السيّارة) التي أُسّست في معسكر السلطان، لتجوبَ البلاد الإسلاميّة لنشر العلوم الدينية.
ذكر نظام الدين القرشيّ في (نظام الأقوال) أنّ العلاّمة الحليّ تُوفيّ يوم عاشوراء ليلاً، أي ليلة الحادي عشر من المحرّم سنة 726 هجريّة. وقد دُفن رحمه الله في المشهد الغروي المقدّس بالنجف الأشرف، بعد أن نُقل جثمانه من مدينة الحلّة إلى جوار الضريح المنوّر للإمام عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه. وكان له من العمر سبعة وسبعون عاماً.
|
|