(النفس اللّوامة) و القسم بها في القرآن الكريم
|
*ضياء باقر العيداني
ماذا يعني القسم؟
إنه يعني الربط بين حقيقتين مع بعضهما وقد يكون الربط مجهولاً عند المجتمع ومعلوماً عند المتحدث كما لو اقسم شخصٌ بعمره بقوله (وعمري) فيربط عمره بذلك الأمر ويرى أن قيمة عمره تساوي قيمة ما يقسم عليه من الأمور.
والباري جلّ وعلا تارة يقسم بالظواهر الطبيعية كالشمس بقوله: "والشمس وضحاها" أو بالنجم كقوله: "والنجم اذا هوى"، وتارة يقسم بيوم القيامة و النفس اللوّامة كقوله تعالى: "ولا اقسم بالنفس اللوّامة"، لينبهنا إلى عظمة ما يقسم به وأهميته ويرشدنا الى دراسة هذا الأمر العظيم الذي يقسم به وتحولاته وندرس طبيعته، والنفس الانسانية لها من العظمة بحيث يريد ربنا سبحانه وتعالى أن نعرف مراتبها وحقيقتها لنعرف عظمة هذه النعمة ونعرف حقيقتها ودرجاتها واحوالها حتى نصل الى الكمال النفسي والاخلاقي الذي هو قمتها، فللنفس مراتب منها الأمّارة بالسوء ثم اللوّامة ثم المطمئنة، والنفس اللوّامة يمكن أن تتسافل لتصل الى الأمّارة بالسوء والعياذ بالله ويمكن أن ترتقي الى النفس المطمئنة.
ما معنى اللّوم والضمير
اللوم هو حالة وجدانية تحصل عند الانسان بعد احساسه بأنه قام بعملٍ خاطئ، وإذا ما تحرك هذا الاحساس والشعور بعد ارتكابه الذنب بحق الله او بحق الناس، فإنه ينمّ عن وجود ضمير حي في داخله، هذا الضمير يمثل المناعة المعنوية للنفس ضد الذنوب. فكما أن لكل انسان مناعة في جسمه تقاوم الفيروسات المقتحمة لجسمه، وهو ما أكده علم الطب بأن الشخص قوي المناعة أقل عرضة للأمراض بينما الضعيف لا يقوى عليها، وقد يتعرض لمرض ما لا يستطيع الجسم مقاومته فيموت، وكذا الحال بالنسبة للنفس الانسانية فالشخص مخلوق وفي داخله فطرة الضمير التي تُعد نعمة من الله تعالى، وتبقى هذه الفطرة التي هي كالمناعة المعنوية ضد الذنوب، فإذا داوم الانسان على مشارطة نفسه وعلى عدم الاقتراب من الذنوب ومحاسبتها، فان شعلة الضمير ستبقى متوهجة، وهذا ما يعطينا معنى (النفس اللوّامة) وهي النفس التي تمتلك تلك المناعة المعنوية او قل الضمير الحي، فإذا اراد أن يقدم الانسان على ذنب بتسويل من النفس، تنبه العقل لذلك ونبه النفس منه ولكن إذا اصرّ وعمل ذنباًَ، يأتي هنا دور الضمير ويؤنب صاحبه لتكون بداية التوبة وهذه الحالة إذا استمرت عند الانسان بحيث بعد أن يندم يعزم بصدق على عد الرجوع الى الذنب سوف تقوى مناعته المعنوية بحجم مراقبته لنفسه ومحاسبته لها فيصل الى درجة أن لا يقرب الذنب وهي درجة النفس المطمئنة التي هي من صفات الانبياء والرسل (صلوات الله عيلهم أجمعين) بل تتسامى النفس المطمئنة الى درجة أن تعمل بترك الأولى والذي كان من صفات الأئمة المعصومين (عليهم السلام).
أما إذا ارتكب الفرد ذنباً ولم يحاسب نفسه ولا يعاتبها، فإن شعلة الضمير ستخبو وهجتها في نفسه شيئاً فشيئاً، حتى تنطفئ فيضحى الضمير ميتاً، ولا يأبه بما يرتكب صاحبه من أعمال مهما كانت كبيرة من خطايا بحق الله تعالى أو بحق الناس، بل ربما يصل به التسافل ليتحول من النفس اللوّامة الى الأمّارة بالسوء والى المزيّنة التي تزين اخطاءه له وتبرر اعماله فيرى الحق باطلاًَ والباطل حقاً.
الندم شرط الاستغفار
جاء في الرواية الرابعة نقلاً عن نهج البلاغة أن قائلاً قال بحضور أمير المؤمنين (عليه السلام): استغفر الله، فقال (ع): ثكلتك أمك! أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العليين، وهو اسم واقع على ستة معانٍ، أولها: الندم على ما مضى، والثاني: العزم على ترك العود إليه ابداً، والثالث: أن تؤدي الى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله عز وجل أملس، ليس عليه تبعة، والرابع: أن تعمد الى كل فريضة عليك ضيعتها فتؤدي حقها، والخامس: أن تعمد الى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالاحزان حتى يلصق الجلد بالعظم وينشأ لحم جديد، والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية فعند ذلك تقول استغفر الله.
هتك العصم
جاء في معنى الهتك: هو خرق الستر عما وراءه، والاسم الهُتكة بالضم والهتيكة الفضيحة، وهتك الستر قطعه من موضعه.
والعصمة في كلام العرب بمعنى المنع.. وعِصمة الله للعبد أي يمنعه ويقيه.
وقد جاء في دعاء كميل (اللهم اغفر لي الذنوب التي تهتك العصم) وهي الذنوب التي تخرق المناعة المعنوية للنفس وتكسر العصمة التي يتقي من خلالها الانسان اقتراب الذنوب والندم عليها وهذه من اخطر الذنوب لأنها كالمرض الجسدي الذي يصيب الجهاز المناعي، فلا يبقى للجسم ما يدافع عنه فيضحى أسيراً لأي ميكروب وكذا الحال للنفس فإنها إن فقدت العصمة والضمير سوف تكون أسيرة الشهوات وبحق الحاكم على العقل فتعمل ما يحلو لها بلا رادع.
ومن الجدير بالذكر أن نذكر هذه الذنوب التي تصيب جهاز النفس المناعي لخطورتها وقد ذكرها الإمام الباقر (عليه السلام) وهي: شرب الخمر واللعب بالقمار وفعل ما يضحك الناس من المزاح واللهو وذكر عيوب الناس ومجالسة أهل الريب.
حصنان منيعان
إن الاستغفار والتوبة أفضل حصنين منيعين للنفس للحفاظ على مناعته من التلاشي، فإذا أذنب العبد ينبغي أن يستغفر الله ويتوب إليه بصدق حتى لا تضعف مناعته بل إن مناعته سوف تقوى، وحسب الوصف القرآني لحال التائب فإن سيئاته – بعد التوبة – تتبدل الى حسنات.
ومن هنا فإن الله تعالى لا يحب عبده الذي يختار العزلة بداعي الحصول على الورع والتقوى، فإذا كان هناك من يختار قمة الجبل أو مغارته فيقضي ايامه بالعبادة والأذكار في تلك الاجزاء الهادئة والأماكن الساكتة تهرباً من احتمال ارتكاب الذنوب فإن الله لايحب هذا الخيار الذي يتمسك به البعض أبداً، وإنما يحب أن يتعرض العبد للفتنة بشكل دائم وإن يتوب إليه تواضعاً إذا ما أخطأ وارتكب ذنباً من الذنوب فيدخل الوسط الاجتماعي ويدخل السوق ويتعرض لإغراء الرشوة فيضع نفسه بين الله سبحانه وتعالى وبين الشيطان فيختار الله على الشيطان ويعلن تمسكه بالعقل والحق والهدى. قال الامام الحسن عليه السلام: (يتوب من الذنب ثم لا يعود فيه واحب العباد الى الله المفتنون التوابون).
حقاً إن الله تعالى يحب عبده الذي يتعرض للامتحان بصورة متواصلة فإن وقع في الخطأ عاد الى جادة الحق بفضل نفسه اللوّامة التي قد ترتقي به الى النفس المطمئنة.
|
|