قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

خيار الدين. . وعوامل التفرقة والوحدة
*أنور عزّالدين
هناك حقيقة لو وعيناها لعرفنا اننا وبسبب ابتعادنا عن القرآن الكريم نبتعد من حيث لانشعر عن عديد طموحاتنا واهدافنا التي تخدم مصالحنا ومشاريعنا، في مقدمتها الوحدة أو ما نسميه في مصطلحات اليوم بالقواسم المشتركة. لذا يوم بعد آخر نشهد تحقق النقيض؛ حيث التفرقة والانقسامات في كل شيء وعلى اكثر من صعيد. والغريب حقاً ان نسمع اليوم دعوات وباصوات عالية من شخصيات تعتد بنفسها، لازاحة الدين جانباً والتوسل بمصطلحات حديثة لتكون الحبل المتين والقاسم المشترك الجامع للقوى الاجتماعية والسياسية، من قبيل (الوطنية) او (الديمقراطية). ولم يتمكن اصحاب هذا الادعاء يوماً اثبات نجاح هذا الخيار، فالازمات والاضطرابات والحروب تندلع تحت شعارات حب الوطن والدفاع عنه، او الدفاع عن مبادئ الديمقراطية التي لا يعرف حتى الان حدود تطبيقها ومصداقيتها على ارض الواقع.
ان الدين لايعود بنا الى الوراء كما هي الفلسفة التي قال عنها المفكر الفرنسي (أوجين يونسكو) "أخشى ان انتعل الفلسفة حتى لا تأخذني الى الوراء"! انما هي سلّم نحو الاعلى، حيث التكامل والتطور في كل المجالات، لذا نجد القرآن الكريم يدعونا الى ان يكون وعينا بالساعة حاضراً لايغيب عنا لحظة واحدة، ويدعونا الى ان تكون عقيدتنا بالله تبارك وتعالى خالصة من اية شائبة، وان لانعتقد بان هناك من يؤثّر في حياتنا سوى الله وباذنه، وبالتالي فان كل شيء يعود اليه. كما ويدعونا القرآن الكريم الى ان يكون خوفنا ورجاؤنا واملنا وثقتنا بالله سبحانه وتعالى، وان يكون المقياس الذي نرجع اليه هو الدين؛ وبالتالي ان يكون المعيار واحداً، وان لا نتفرق في الدين لانه واحد.
التفرقة ليست من الدين :
ان التفرق الموجود فيما بيننا لهو دليل على ان بيننا وبين الدين فواصل؛ اي اننا لسنا مع الدين كله، بل معه ومع اهوائنا في نفس الوقت. فقد خلطنا الدين بالاهواء، ولذلك يقول تعالى في سورة الشورى مذكراً إيانا بهذه الحقيقة: "شَرَعَ لَكُم مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً" (الشورى / 13). هذه الآية الكريمة توحي لنا بان الشريعة الاساس المتكاملة التي نزلت على الانبياء عليهم السلام تكاملت اول ما تكاملت على يد شيخ المرسلين نوح عليه السلام لانه اول اولي العزم من الانبياء. فالشريعة واحدة منذ بداية الشرائع الى انتهائها بالشريعة التي ختم الله جل وعلا بها شرائعه وانزلها على نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله.
ولكي تعرف هل انك ممن يقيم الدين أم ممن يلتزم بجانب من الدين دون الجانب الآخر؛ انظر الى طبيعة علاقتك مع المؤمنين الآخرين، فان كانت علاقتك معهم علاقة وثيقة متينة، بل اذا كانت بينك وبين الآخرين وحدة موضوعية في جميع الجوانب فاعلم انك قد اقمت الدين، ولذلك يقول عز من قائل في الآية اللاحقة: "أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ"، والعبارة القرآنية: "كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْه" تعني انكم - أيها المؤمنون - تدعون الى حضارة راقية ومستوى رفيع وحياة فاضلة، وهذه لن يبلغها الانسان بسهولة ؛ فمن السهل عليك ان تطلب من شخص ان يركض، لان الركض عمل يتعلمه الانسان منذ طفولته. اما ان تطلب منه ان يلقي خطابا في حفل كبير حاشد على ان يكون الخطاب ذا محتوى جيد واسلوب رائع واثر عميق، فانه ربما سيبدي عجزه لذلك.
وبناء على ذلك فان من الصعب على المشركين - كما تصرح بذلك الآية السابقة - ان تدعوهم الى الصدق والايجابية والتحرك والنشاط والهمة الروحانية، وحياة ملؤها الفضيلة والتقوى والاخلاق الحسنة. فالذي يريد ان يحقق هدفاً عظيماً هو اقامة الدين، واقامة حكم الله في الارض لابد ان يدفع ثمن هذا الهدف العظيم. فعندما تدعوك نفسك الى مخالفة صاحبك تساءل في نفسك: هل من الصحيح ان اضحي بهدفي العظيم الذي هو اقامة الدين في الحياة، وانقاذ الناس من الضلالة، من اجل ان اشبع غرور نفسي ورياءها واتحدى صاحبي ؟
من هنا نرى ان الجماعات الاسلامية العاملة ورغم التضحيات الجسام والعمل الجبار طيلة سنوات ومقارعة الطواغيت وتحدي الظروف القاسية والصعبة، يعجون عن الحفاظ على المكتسبات والانجازات، بل نجد بعضها تخلع ثوباً وترتدي آخراً!! فيما الاخرى تنخرط في خضم التنافس المحموم على المصالح الفئوية والشخصية وحتى العائلية. كل هؤلاء كانوا يرفعون شعار (الوحدة الوطنية) او (القومية) ودعوا الناس لنسيان كل شيء سوى هذا الشعار حتى وان فارغاً من محتواه الاخلاقي والديني.
سيكولوجية التفرقة
في سورة الشورى وانطلاقاً من الآية الكريمة الآنفة الذكر، نكتشف حقيقة باهرة من القرآن الكريم، وهي ربما من معاجز هذا الكتاب. ان التفرقة والانقسامات ليست مفروضة على اصحابها، او انها تظهر نتيجة ظروف معينة، وهو ما يسعى المتفرقون دائماً التذرّع بها، بينما الحقيقة هي انهم المسؤولون أولاً واخيراً عن تفرقهم وتمزقهم وليس الآخرين. تقول الآية الكريمة: "وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيَاً بَيْنَهُمْ" (الشورى/14). بمعنى لو اراد الانسان الوحدة مع الاخرين والتقارب لا يمنعه شيء. لكن في نفس الوقت تدعوه نزعة التسلّط والبغي على الآخرين لأن يتقوقع وينفرد في اتخاذ القرار.
والمشكلة الرئيسية التي يعاني منها الانسان هي انه ينزع دائماً للاستحواذ على جهود غيره ؛ فروحه تدعوه دوما الى العدوان على الآخرين، ولذلك نجد ان اكثر اسباب التفرق تنبع من هذه الطبيعة البشرية غير المهذبة. فاذا رضي كل انسان بما يعمله وينتجه لما حدثت مشكلة في العالم، ولكن كل واحد يريد ان يأخذ من الآخرين زيادة على ما يمتلكه. فكل انسان يتصور ان الاخرين أعلى منه وعليه ان يصل الى مرتبتهم مهما كان الثمن، فهو يستحق اكثر مما هو عليه! وهنا يستغل الشيطان هذه الثغرة في نفس الانسان ليوسوس، وليوحي اليه أنه من المفترض ان يحتل المنزلة الفلانية، وان حقه مهضوم، وان الآخرين لايقدرونه حق تقديره. في حين ان هذا التصور مغلوط من الاساس، لان الانسان لايستطيع ان يقيّم نفسه حسب ما يشاء، انما تقييمه يأتي من الاخرين له، يقول الامام علي عليه السلام: (المؤمن مرآة أخيه المؤمن).
من هنا نعرف ان الوحدة ليست شعاراً فقط، انما هي ارادة قبل كل شيء من الانسان ليكون قنوعاً وفاضلاً واجتماعياً محباً لاخوانه ما يحب لنفسه. وهذا ما يدعونا اليه الاسلام، ولنا في رسول الله أسوة حسنة عندما آخى بين المهاجرين والانصار لبناء اول مجتمع اسلامي نموذجي، وكانت اول خطوة الى طريق الوحدة والاخوة الاسلامية هي التنازل المتبادل عن المصالح والخصائص لحساب الاخر. وهذا ليس من ضروب الخيال والحلم، انما هو حقيقة لكن مغيبة عن الاذهان والواقع. ولنا ان نضع القدم الاول وبشجاعة على أنانيتنا وحرصنا على المال والجاه، لنجدالقدم الثانية في واحدة الوحدة والتماسك والتخلص من كل سيئات وافرازات التفرقة التي تحيط بنا.