حُسن السيرة والسلوك وتأثيره على القضاء والقدر
|
*كريم الموسوي
القضاء والقدر بحران عميقان، لايجتازهما أحد سباحة حتى يركب سفينة الرسول وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام فإذا ركبنا هذه السفينة ربما نستطيع أن نجتاز تلك البحار المتلاطمة من دون أن نغرق في مياههما، ولابد أن نقول أيضاً بأن الأئمة عليهم أفضل الصلاة والسلام لم يتحدثوا عن كل تفاصيل هذا الموضوع لأنه يحتوي على أسرار غيبية، ليس الناس بحاجة إلى الاطلاع عليها، ولاسيما بالنسبة إلى موضوع القدر حيث أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل شيء قدراً من الطول والعرض والحجم والعمق ومن الوجود الروحي والمادي، وقدر لكل كائن زمن وعمر معين أخفاه الله سبحانه وتعالى عن أنظار وعقول الناس كافة، وافضل من تحدث عن القدر هو أمير المؤمنين سلام الله عليه حيث قال: (ألا إن القدر سر من سر الله، وحرز من حرز الله مرفوع في حجاب الله، مطوي عن خلق الله، مختوم بخاتم الله، سابق في علم الله وضع الله عن العباد علمه، و رفعه فوق شهاداتهم، لأنهم لايتالونه بحقيقة الربانية، ولابقدرة الصمدانية، ولابعظمة النورانية، ولابعزة الوحدانية، لأنه بحر زاخر مواج، خالص لله عزوجل، عمقه ما بين السماء والأرض، عرضه ما بين المشرق والمغرب، أسود كالليل الدامس، كثير الحيات والحيتان، تعلو مرة وتسفل أخرى، في قعره شمس تضيء، لاينبغي أن يطلع عليها إلا الواحد الفرد، فمن تطلع عليها فقد ضادالله في حكمه، ونازعه في سلطانه، وكشف عن سره وستره، وباء بغضب من الله، ومأواه جهنم، وبئس المصير).
إن للقضاء مرتبة غير مرتبة القدر، وإن كان الإثنان من مخلوقات الله عزوجل كما ذكر الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: (إن القضاء والقدر خلقان من خلق الله والله يزيد في الخلق ما يشاء) (التوحيد/ ص364)، لكن مرتبة القضاء غير مرتبة القدر، والقدر يسبق القضاء في الوجود كما ورد في التوحيد عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال: سُئل العالم – الامام الكاظم - عليه السلام كيف علم الله؟ قال: عَلِم وشاء وأراد وقدر وقضى وأمضى فأمضى ما قضى وقضى ما قدر وقدر ما أراد فبعلمه كانت المشيئة وبمشيئته كانت الارادة وبإرادته كان التقدير وبتقديره كان القضاء وبقضائه كان الامضاء فالعلم متقدم على المشيئة والمشيئة ثانية والارادة ثالثة والتقدير واقع على القضاء بالامضاء).
إذن، من الواضح أن العلم يسبق كل شيء وبعد ذلك تأتي المشيئة والارادة ثم التقدير وهنا يأتي القضاء بعد التقدير لكن القضاء ليس هو آخر مرحلة من هذا النظام المتكامل إذ يأتي بعده الإمضاء، فإذا أُمضي الأمر فإنه سيقع بلاشك أو ترديد، وأما في مرحلة القضاء فقد يتغير الأمر، كما تغيّر الصدقة القضاء المبرم، إلا إن القضاء والتغيير الذي حدث فيما بعد هو كله في علم الله وخاضع لقدرته، لأن الصدقة أو صلة الرحم، أو مساعدة الملهوف وغيرها من الأمور التي تغير قضاء الله وتترك تاثيراً على الأرزاق والاعمار وعلى النجاح والفشل وغير ذلك، هي أيضاً تخضع لتقديرات إلهية وقواعد ذات تاثيرات مباشرة على قضائه وقدره.
عن إبن نباته قال: إن أميرالمؤمنين عليه السلام عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أميرالمؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدرالله عزوجل.
وهنا نجد ان الإمام علي عليه السلام عندما يتحدث عن التحول من قضاء الله إلى قدره، فإنه في الواقع يتحول من قانون إلهي خاص إلى قانون إلهي أكثر شمولية وعمومية، وهناك روايات كثيرة تؤكد تأثير إرادة الإنسان على قضاء الله وقدره.
ومن كلام لأميرالمؤمنين عليه السلام يصف فيه أصحاب الرسول الله صلى الله عليه وآله: (.. فلما رأى الله صدقنا أنزل بعدونا الكبت، وأنزل علينا النصر، حتى استقر الاسلام ملقياً جرانه ومتبوّئاً أوطانه..) (شرح نهج البلاغة/ ج4، ص32).
وفي رواية ثانية .. لما مرّ أميرالمؤمنين عليه السلام بخراب المدائن قال: إن هؤلاء القوم كانوا وارثين، فأصبحوا مورثين، وأن هؤلاء القوم استحلوا الحرام فحلّت فيها النقم، فلا تستحلوا الحرم فتحلّ بكم النقم. (كنزالعمال، خ44228).
وفي العاقبة السيئة وتأثير العمل الإنساني على مصير الأمة ومستقبلها قال الإمام علي عليه السلام (ألا وانه لايزال البلاء بكم من بعدي حتى يكون المحب لي والمتّبع أذل في أهل زمانه من فرخ الأمة قالوا: ولِمَ ذلك؟ قال: ذلك بما كسبت أيديكم، برضاكم بالدنيّة في الدين، فلو أن أحدكم إذا ظهر الجور من أئمة الجور باع نفسه من ربه وأخذ حقه من الجهاد لقام الدين.. ) (نهج السعادة/ ج3، ص299).
ففي الرواية الأولى يؤكد الإمام علي عليه السلام انه لما رأى الله سبحانه وتعالى صدق المسلمين واخلاصهم في الجهاد أنزل عليهم النصر، وإذا لم يستطع المسلمون أن يثبتوا ذلك كما حدث في معركة أحد فإنه عزوجل لن ينصرهم. وفي الرواية الثانية، لم تنزل النقم بحال أهل المدائن إلا بعد أن استحلوا ما حرم الله، وهذا الشيء لايستثنى منه حتى المسلمين فيقول لهم (فلا تستحلوا الحرم فتحلّ بكم النقم).
والعذاب لا ينزل فقط على المسلمين بل حتى على الشيعة الموالين الذين لم يلتزموا حقاً وصدقاً بإيمانهم وولائهم لآل بيت النبوة سلام الله عليهم فاستحقوا الذل والهوان كما لاحظنا في الرواية الأخيرة، ففي كل أمر هناك قضاء وقدر وللانسان تأثير فيهما خيرهما وشرهما، فان كان عمله خيراً فخير وإن كان عمله شراً فشر، فيكون التقدير مساوي للعمل، فيرفع عمره بصلة الرحم، ويكثر رزقه بالصدقة، ويخرج من الذل والهوان إلى العز والكرامة بالجهاد.
|
|