الإيمان بالغيب.. خير وسيلة لديمومة سنّة الاختبار في الحياة
|
*طاهر القزويني
من أين أتيت؟ وإلى أين ستذهب؟ ومن أي عالم جئت إلى الدنيا؟ وإلى أي عالم ستذهب ؟
بإمكانك أن تتجاهل هذه الأسئلة، ولاتصغي إلى ثرثرتها في العقل الباطن، لكن إلى متى ستصمد في مقاومة هذه الأسئلة وعدم البحث عن الإجابة عنها؟
التفكير في الغيب هوالبحث عن عالم مفقود، مجهول الهوية والتفاصيل، وقد أراح الكثير من العلماء الماديين أنفسهم من التفكير والبحث عن هذا العالم المفقود ونسفوا أساس الفكرة وقالوا بعدم وجوده! إذن، لماذا لانرح أنفسنا من عناء التفكير في هذا الموضوع وننكر وجوده كما فعل العلماء الماديون الذين لايؤمنون إلا بما هو محسوس وملموس؟
وإذا كانت القضية تنتهي عند هذه الحدود فربما يقرر المرء مقاطعة التفكير في هذا الأمر، غير أنه لانهاية ولا حدود لهذه القضية، ولايمكن أن نعزل أنفسنا عن التفكير في هذا الموضوع، لأننا نلاحظ تدخلاً واضحاً من قبل ذلك العالم الغيبي في عالمنا، فهل نتجاهل التدخلات هذه أيضاً؟
هناك تدخل في صميم حياتنا... في المأكل والمشرب والمطر والشجر والحجر والمدر والصحة والمرض والرزق والعذاب والبراكين والزلازل والسيول والفيضانات و... وما من يوم يمر من أيام الإنسان إلا وتحدث له أحداثاً ووقائع لايمتلك لها تفسيرات منطقية، لأنه لم يتدخل في صنعها، ولم يتخذ قراراً مؤثراً في وقوعها، فهي إما تكون قد وقعت بالصدفة، وهذا محال لأن الصدفة مجنونة ولاتخضع لقانون العلم، أو تقول أنها حصيلة أوامر آتية من عالم الغيب.
ليس كل ما يعجز عن تفسيره الإنسان يربطه بعالم الغيب، فالدلائل القرآنية ترشد إلى هذا العالم الخفي الذي يتدخل في عالمنا بل ويتحكم به ويسيطر عليه فيقول تعالى: "تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" (السجدة/ 5-6)، والرحمة تأتي من عالم الغيب "يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا" (يونس/ 71) وتسخير البحار "وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ..." (إبراهيم/ 32) والشمس والقمر أيضاً تعملان بأمر الغيب والسماء "وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ..." (الأعراف/ 54) والتدخلات لاتقف عند هذه الحدود بل تتجاوز ذلك لتطال حياة الإنسان وحركته العضوية في الحياة حتى يقول الإنسان مستسلماً وخاضعاً لقوة الغيب (بحول الله وقوته أقوم وأقعد) يقولها في صلاته وهي تعني أن الإنسان لايحرك حركة من جسده إلا ويكون بحاجة إلى عون يأتيه من عالم الغيب، فهو لايعلم ما يحدث في داخل جسده وأي واحد من الأعضاء والأجهزة الداخلية تعمل بشكل جيد وأيهما عاجز عن ذلك، وهو حتى إذا عرف طبيعة عمل هذه الأجهزة فإنه سيبقى عاجزاً عن التحكم بها وطبيعة عملها.
إلى هذا المستوى يتدخل الغيب في حياة الإنسان، حيث يحدد فيها عدد ضربان قلب الإنسان، هذا الجهاز الحساس والمصيري الذي يتحكم بالموت والحياة.
من هنا يمكن القول أنه من الصعوبة بمكان تجاهل تلك الأسئلة المتعلقة بعالم الغيب، من أين أتيت وإلى أين ستذهب؟ والكثير غيرها... ذلك أن عالم الغيب يتدخل في كل صغيرة وكبيرة من أمورنا بل وهو الذي يتحكم بها.
لقد امتدح الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عمل المتقين الذين يؤمنون بالغيب: "الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ" (البقرة/ 1-3)، ولنسأل هنا: هل كان هؤلاء المتقين مطلعين على عالم الغيب حتى يؤمنوا بوجوده؟
نحن نؤمن بوجود الله ولكننا لم نراه، ولانعرف ماهيته، وقد منعونا أئمتنا عن البحث في هذا الأمر لأنه يقود إلى الكفر والشرك، لكننا نؤمن بوجوده عزوجل لما نشاهد من آثاره في الحياة الدنيا، وكذلك الغيب نحن نؤمن بوجوده وبتأثيره في حياة الإنسان لما نلاحظه من تدخلات غيبية في حياتنا، ولاحاجة لأن ننغمس في بحوث عقيمة وتفاصيل تبعدنا عن الغيب أكثر مما تكرسه في نفوسنا.
فالقرآن يجيبنا أنه لا المتقين ولا أي واحد من البشر مطلع على الغيب: "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا" (الجن/ 26) وأية أخرى: "وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ" (آل عمران/ 179) حتى الأنبياء عليهم السلام هم غير مطلعين على الغيب "قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ" (الأنعام/ 50) أو الآية "وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ" (الأعراف/ 188)، وهذا منطق صحيح، إذ لو كان مطلعاً على الغيب لطلب الخير ودفع المكروه عن نفسه و لوجب عليه ذلك بحكم الله من باب "ولا تلقي نفسك في التهلكة"، واستخرج خزائن الأرض من الذهب والجواهر وغيرها، وحقق النصر في معاركه وحروبه، بينما خسر المسلمون في معركة أحد لخطأ كان بالإمكان تلافيه لو كان الناس لديهم معرفة بما سيحصل عليهم نتيجة نزولهم من قمة الجبل.
نعم يعطي الله سبحانه وتعالى شيئاً محدوداً من الغيب إلى أنبيائه فيقول عزوجل "ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ" (آل عمران/ 44) فيوحي له عبر وسائل الوحي المختلفة بعض الأمور الخفية التي حدثت فيما مضى أو التي ستحدث في القادم.
بالطبع إذا أراد النبي أو الوصي عليهما السلام معرفة شيء في السموات والأرض، فإنما يطلب ذلك من الله سبحانه وتعالى فينزل عليهم، وهكذا كان حال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما تبين الكثير من الروايات الشائعة إنه لما يُسأل في أمور شائكة، كان ينتظر الجواب من الله سبحانه على لسان الوصي.
ولعل أحدهم يسأل ويقول لماذا لايكشف الغيب عن حقيقته؟ ولماذا يجب أن تختفي حقائق الحياة وراء ستار الغيب؟ أليس من الأفضل لهداية الناس أن تنكشف لهم حقائق الجنة والنار والجن والشياطين والملائكة؟ الجواب: إذا إنكشف الغيب بطل الإبتلاء والإمتحان، ولهذا عندما تنتهي فترة الإمتحان البشرية بالرحيل عن دار الدنيا، ستفتح أبواب الغيب للإنسان ويرى الأشياء التي لم يمكن يراها في عالم الدنيا "فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ" (ق/ 22).
وستظهر قيمة الإنسان والعقل البشري لما يدرك الأمور غير الحسية بالعقل وبآثارها في الحياة، فنحن لانرى الله سبحانه وتعالى لكننا نرى آثاره في الحياة الدنيا من خلق الكون والسموات والأرض والإنسان والحيوان والنبات والجماد، ونحن لانرى الجاذبية لكننا نؤمن بوجودها وندرك آثارها في الحياة، ونحن لا نرى الشيطان، ولكننا ندرك وساوسه وألاعيبه ومكره، ونحن لانرى العقل ولكننا ندرك ونعلم أن لكل إنسان عقلاً يفكر به ويقوده إلى الرشاد.
وأما الذي ينفي وجود هذه الأشياء لأنه لايراها، فهو عديم العقل، لأنه لايرى عقله، فالعقل غير محسوس ولاملموس ولايخضع للإختبار داخل المختبر، فهو في حسابات الماديين غير موجود! فإذن هم لايملكون عقول!
|
|