يستذكر أيامه قبل مغيب شمس العمر
الفقيد: فائق الكمالي و (قبسات من تراث كربلاء)
|
قراءة : محمد علي جواد
بالرغم من وجود عدد لابأس به من ابناء الجيل الماضي او من المخضرمين، ممن يعودون الى أجيال مضت، إلا اننا – ابناء هذا الجيل- لم نستفد منهم عبراً وتجارباً وحكماً، ربما يكون هنالك حديث عابر او استذكار بعض المواقف او المسائل خلال جلسة شاي او (على الماشي)، في حين ان هنالك قطعاً أموراً عايشها هؤلاء لها اهمية كبيرة على الصعيد الاجتماعي والثقافي، من قبيل العادات والتقاليد ونمط العيش وكل ما يتصل بالتراث، وهذا الأسف يشتد اذا كان الأمر يتصل بمدينة مثل كربلاء المقدسة، لما تضم من ارث ديني وحضاري ضارب في الجذور، وتراث اجتماعي اصيل. وكما يقال دائماً بان (من لا تاريخ له لا متسقبل له). ونحن نقول: ان التاريخ يُقرأ من اجل الحاضر، والتراث هو معالم تحمل العبر والتجارب لحاضر وغدٍ افضل.
ولكن؛ وسط هذا الجدب يخرج أحد وجهاء هذه المدينة المقدسة وهو من رجالها المخضرمين ويبادر لتسجيل مشاهداته لما كانت تضمه هذه المدينة من تقاليد ومعالم وعادات وغير ذلك. لكن – مرة أخرى- هذا التفاؤل اختلط بالحزن بالحقيقة، عندما بلغنا نبأ رحيل الحاج فائق مجبل الكمالي، ويبدو انه أبى الرحيل عنّا قبل ان يخط يراعه الثر ما تجود به ذاكرته من تلكم المشاهدات وما عايشه في مدينته العزيزة. لذا نجد ان (قبسات من تراث كربلاء) وقد تحول الى كتاب يوزع خلال مراسيم يوم الاربعين للفقيد الراحل، ونحن هنا نسأل الله العلي القدير ان يتغمد هذا الفقيد السعيد فسيح جناته ويحشره من أهل البيت عليهم السلام. والشهداء الابرار.
وقبل استجلاء القبسات)، يجدر بنا تعريف الحاج فائق الكمالي فهو من عشيرة النصاروه المعروفة والمتفرعة من قبيلة عبادة العريقة. من مواليد عام 1927 في كربلاء المقدسة، خريج متوسطة كربلاء للبنين. بالرغم من عدم حصوله الى شهادة الحقوق تسنّم مناصب كبيرة لمقدرته وكفاءته الادارية، فتم تعيينه مديراً لاملاك العمارة عام 1963، وبعدها تولى ادارة املاك الديوانية.
لم يسلم الفقيد الراحل من السياسات القمعية والطائفية للنظام البعثي البائد، حيث فصل من وظيفته كمدير لاملاك الديوانية عام 1970 بتهمة ما يسمى (ترويج الشعارات الدينية والطائفية).
أسس مجالس عزاء الامام الحسين عليه السلام في مدينة الديوانية بالتنسيق مع وكيل المرجع الديني الراحل السيد محسن الحكيم.
صاحب (قبسات من تراث كربلاء) يوضح في مقدمة كتابه بان (ما دونته من معلومات كنت قد زامنتها شخصياً ولم اعتمد فيها على أي شخص أو مصدر)، بمعنى ان المؤلف تطرق في كتابه الى مشاهداته والامور التي عاصرها وعايشها بنفسه، ولم يكن عمله إعداد موسوعة كاملة عن تراث كربلاء المقدسة بالاعتماد على المصادر كما يفعل الكثير من المؤرخين.
ضمّ الكتاب بين دفتيه ثلاثة فصول: عادات وطقوس كربلائية، معالم من كربلاء، مهن انتعشت وسادت ثمّ اندثرت وبادت...
استهل الفقيد الراحل كتابه في عادات وطقوس المدينة المقدسة، بشهر رمضان المبارك، ويروي كيف ان الناس يعيشون أجواءً مميزة بالكامل عن سائر أشهر السنة، من الناحية المادية والمعنوية، يقول المؤلف الراحل: (لا أجافي الحقيقية ولا أحيد عن الواقع لو ذكرت ان شهر رمضان الكريم يختلف عن بقية الأشهر بكل المناحي، حتى سلوك الناس تشعر انها اختلفت جذرياً عمّا كانت عليه قبل حلوله، فهو بحق شهر الله. شهر التسامح والتقارب والتآلف علاوةً على كونه شهر الطاعة والعبادة وطلب الغفران).
ويأتي المؤلف على ذكر موائد الافطار وسنّة إهداء طعام الافطار الى الجيران لاستحصال أجر افطار الصائم. وفي هذا السياق يشير المؤلف الى ظاهرة يبدو انه استوقفته ولم يتمكن السكوت عنها، وهي الاسراف في طهي الطعام خلال شهر رمضان المبارك ثم رميه في القمامة، ويتسائل: (لا أعرف السبب في هذا التمادي في تنوّع الأكلات بشكل مبالغ فيه جداً. والكل يعلم ان الصائم لا يتناول من تلك الانواع إلا جزئها الباقي يعاف ويهمل ليأخذ طريقه الى حاويات النفايات والأزبال!! في الوقت كان بالامكان التصدّق بالمواد الغذائية على الفقراء قبل طبخها ليستفيد منها الفقراء في أيام اخرى.. .).
واسهب المؤلف في شهر مراسيم وطقوس الزواج في المدينة المقدسة، ربما للأهمية التي تحضى بها هذه المسألة اجتماعياً وهي كذلك قطعاً، ويشير المؤلف الراحل الى الدور الكبير للأسرة في مساعدة الشاب والشابة على تسهيل أمر الزواج والاقتران بالآخر تحت ظل قيم اخلاقية ودينية تضمن لهما العيش السعيد الخالي من الازمات والتعقيدات.
وفي الفصل الثاني حول معالم كربلاء المقدسة، استهل المؤلف الحديث عن مدرسته التي يبدو انه شديد الاعتزاز بها كونها منطلق شخصيته العلمية والثقافية، وهو محق في ذلك قطعاً. وتحت عنوان (مدرستي ايام زمان) يتحدث المؤلف الراحل عن مدرسة (باب الطاق الابتدائية)، وكيف ارتقى فيها المراحل الدراسية، متخللاً الاشادة بالاساتذة آنذاك، ومستذكراً عدد من زملائه التلاميذ. ثم تطرق الى نخيل المدينة والى الخانات والمكابس وهي معامل لانتاج دبس التمور. وانهى الفصل بالحمامات في كربلاء المقدسة.
ولنا ان نضيف ان من ابرز معالم كربلاء المقدسة، المدارس الدينية والحوزات والحسينيات، فقد كانت معالم شامخة ومعروفة وبارزة للعيان، ولا يختلف معنا آباؤنا الأجلاء ممن هم اليوم على قيد الحياة، كما لايمكن ان يخفى على المؤلف الراحل، لما لها من دور عظيم على صعيد الثقافة والمعرفة، وايضاً على صعيد المجتمع. لكن نعطي الحق للمؤلف لأنه ربما لم يعايش هذه الاجواء عن قرب، لذا لم يشأ ان يكتب عن أمور لاتتوفر لديه تفاصيل عنها. مثل تاريخها ومناهجها وعلماء الدين الذي عملوا فيها وانجازاتها.
وفي الفصل الثالث والاخير يأتي المؤلف الراحل على ذكر المهن التي اشتهرت بها كربلاء المقدسة في سالف الايام. في مقدمتها صناعة الدبس التي اسهب بالحديث عنها كثيراً، كما يشير الى مهن أخرى مثل (الكواز) و (التونتجي) و (المكاري) واصحاب (الربلات)، و (الخبازات) و (خياط الفرفوري) و (الرقاع) أي الاسكافي و (النعلجي) وهو صانع الخفّ.
وفي (الخاتمة) الشجيّة، يعبر المؤلف الراحل ما تجيش به كوامنه من لوعة وأسى فهو يقول: (ما زلت مُدان لهذه المدينة المقدسة والعريقة ولمن استوطن بها ولعموم الاجيال من بعدنا) ثم يصرّح بكل شفافية ورقّة: باني لم التفت هذا المشروع (إلا وانا على العتبة الاخيرة من عمري وانا أصارع المرض مسجّى على الفراش تقلبني أيدي أحبتي من أهلي). ويؤكد ايضاً للقارئ بان الموجود لم يكن (بالصورة التي أطمح لها مستوعباً به كل معالم كربلاء وآثارها وتراثها وعادات أهلها التي تنمّ عن القيم الاخلاقية العليا والمثل العظمى).
|
|