الإنسان بين حاجاته المادية، وروحه السامية!!
|
*يونس الموسوي
من يملك حق إصدار الأوامر؟ هل هم العلماء؟ أم الساسة؟ أم الحكام؟
هذا السؤال يأتي في إطار البحث المستمر عن النظام الأفضل للبشرية، ومن أين يحصل هذ النظام على الشرعية؟ هل من الله أم من الأمة؟
لابد أن نتعمق في هذه المسألة حتى نصل إلى جواب منطقي.
إننا نلاحظ في الحوار القرآني أن فئة من الناس ظنوا أنهم إذا إنتموا إلى ملة الإسلام سيحصلون على إمتياز المشاركة في القرار والحكم، فأوضح القرآن الكريم إنه ليس لهم من الأمر شيئٌ "وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ" (آل عمران، 154).
وإذا تقدمنا إلى مستوى أرقى من هذا، سنجد أنه حتى الأنبياء عليهم أفضل الصلاة والسلام وهم أفضل من في البشرية علماً وإيماناً وخُلقاً، نجد أنهم ينفذون ما أمر الله به "مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ" (المائدة، 117) فهو لايقول من نفسه، ولايأتي بشيء من عنده، وكل ما يقوله ويأمر به هو بأمر الله.
وبعيداً عن كل الحزازيات النفسية التي تقع دائماً بين أنصار التيارات الفكرية المختلفة، فان هذه المسألة يمكن مناقشتها ومعالجتها علمياً، وليس من شك أن البشرية جمعاء تتفق على أن الحاكم يجب أن يكون عالماً بالأمور، وليس أحد من تلك البشرية يستطيع أن يقول بأنه أعلم من الله سبحانه وتعالى في أمور الكون والخلق.
فالعالم هو الذي يشرع القوانين بما ينفع حياة الناس، وعلى أساس القسط والعدل، ووفق الموازين والقيم التي تكرم الإنسان وترفع من منزلته بين الخلائق، ولنا أن نقرأ وندرس التشريعات عبر الزمان والتاريخ لنعرف التشريعات التي قدمت أفضل الحلول والمعالجات للحياة البشرية.
وقد أثبتت التشريعات الدينية جدواها بالنسبة للحياة الإنسانية لاسيما في تلك الفترات التي شهدت تطبيقاً صحيحاً لمفاهيم وقيم السماء، وإذا إستثنينا الفقرات الجاهلية التي دخلت الدين عنوة، فأن الدين الإسلامي يقدم نموذجاً رائعاً من الحياة الإجتماعية التي يرتفع فيها الأفراد إلى مستوى القيم والمبادئ الرفيعة.
والدين ينزع الهوى المستأصل في الشخصية الذاتية للإنسان ويجعله يعيش الحياة المبدأية، وتستمر هذه الحياة النوعية على مديات إلتزام الإنسان بالمبادئ والقيم، وإذا عاد إلى لذاته وأهوائه فإنه سيعود أيضاً إلى المستنقع الهابط. فهل المادية الوضعية بإمكانها أن تقدم لنا صورة الحياة المبدئية التي نريد أن نعيشها؟ فإذا كانت تستطيع ذلك... فأهلاً وسهلاً !! لكن ما مدى امكانية ذلك؟! لأن أسس المادية تقوم على تلبية الحاجات المادية للإنسان ونكران ما تحتاجه الروح، وهل يمكن للإنسان أن يعيش من أجل جسده دون ملاحظة ما تحتاجه روحه؟
المادية الوضعية قدمت لنا أبشع صور التاريخ في الحكم والظلم والاعتداء على حقوق الآخرين، كما قدمت المادية لنا نماذج كثيرة من الطغاة والمتجبرين الذين قتلوا آلاف البشر ودمروا عشرات المدن وأهلكوا الحرث والنسل. فما هو المسوغ للمادية الوضعية كي تبتكر مبادئاً وقيماً تُراعى فيها كرامة الإنسان؟
التاريخ هو الذي يدفع بهذا الإنسان المادي أن يغير من نمط تفكيره، ويتجه نحو القيم والمبادئ العُليا التي تحث على حب الغير وعدم إنتهاك حقوقه وإحترام كرامته، ليس بدافع الدين وإنما أيضاً بدافع المصلحة، فهو يحترم حقوق الآخرين، حتى يحترموا حقوقه، وإذا دققنا النظر في هذا المبدأ سنجد أن أصوله دينية وليست مادية، فالدين هو الذي يقول (حب لأخيك ما تحب لنفسك).
ومن هنا يتبين أن جميع القوانين والتشريعات ذات الطابع الأخلاقي الموجودة في العالم المادي، هي إقتباسات علمية من الاطروحة الدينية للحياة، ومن المؤسف حقاً أن يلتزم أولئك الذين لايؤمنون بالدين بتلك المبادئ التي أثبتت جدوائيتها العلمية مثل مبدأ (إحترام حقوق الإنسان) بينما نحن المسلمون لم نقر بمثل هذا المبدأ ولم نشهد تطبيقاً له على أرض الواقع، برغم أن أصوله الإسلامية واضحة للعيان.
إن إذعان المادية الوضعية بمبادئ الأخلاق ذات المنبع الديني لهو دليل آخر على رجاحة المبادئ الدينية وأنها الأنسب لحياة البشرية.
وإذا كان العالم هو الأصلح لتشريع القوانين، فأن الله سبحانه وتعالى هو الأعلم بحاجات الناس وغاياتهم، وعناصر الضعف في ذواتهم، ولذا فأن التشريعات ستكون ملائمة لكافة حالاتهم ومعالجة كافة أوضاعهم، وإذا كان البشر بطبعهم يميلون إلى الفئات التي ينتمون إليها ويصدرون التشريعات التي تخدم مصالح فئاتهم، فأن الله سبحانه وتعالى لايأمر إلاّ بالعدل والقسط.
وقد قرأنا في التاريخ عن الثورة الفرنسية وعن الثورة الصينية والروسية والثورات الأخرى التي كان الواضح أنها تسعى لتحقيق العدل والمساواة، فهل حققت تلك الثورات مثل تلك العدالة؟
كل ثورة حدثت في التاريخ جاءت لتحقيق مصالح فئة معينة من الناس، منها ما كان غايتها تحقيق العدالة للفقراء فاغتصبت حقوق الأثرياء، ومنها ما عملت لرفع مستوى فئة العمال فحطمت فرص التقدم لفئات أخرى، ومنها ما حققت المكاسب لرجال الثورة وتركت الأمة تعيش الحاجة والحرمان!
بينما التشريع السماوي ينزع من البشر كل عوامل البغض والكراهية تجاه الغير حتى وإن كان عدواً، فهو لايعاديه لذاته وإنما لأفكاره، فإذا غيَّر أفكاره تمكن من تحييده وتجنب شره، ولهذا السبب تمكن الإسلام من الامتداد عبر الزمان والمكان مخترقاً كل الحدود وكل الأجناس، فلم يقل الرومي أنه دين العرب فلا أنتمي إليه، ولم يقل الفارسي إنه دين العرب ولا أنتمي إليه، فهؤلاء لم يلاحظوا النزعة القومية والعنصرية على هذا الدين الذي جاء رحمةً ليس للعرب فقط وإنما للفرس والرومان وللعالمين، فكما أنقذ العرب من الجاهلية، فهو أيضاً أنقذ الفرس من العبودية، وأنقذ الروم من البطش والإرهاب.
السؤال هنا: لماذا لايستطيع الإسلام مرة أخرى إنقاذ العرب مما هم فيه من الضعف والعبودية والإستعمار؟
إن مشكلة المسلمين اليوم هي مشكلة الإختلاط الذي حصل بين نظرة الإنسان وبين مبادئ الدين الشريف، فمع عدم وجود القائد الفذ والمفسر الحقيقي لتعاليم الدين ونصوصه العظيمة، سيخرج أناساً غير متفقهين في هذا الدين يزيدون الناس إنكفاءاً وضعفاً إلى ما فيهم من الضعف.
لم تبرز المذاهب الدينية الطارئة والمدارس الفكرية إلى حيز الوجود إلا نتيجة لافتقاد ذلك القائد الملهم، فلو كان القائد موجوداً لفسر الدين كما أراده الله وأقنع الناس جميعاً مقالته، غير إننا ليس لم نشهد فقط ظهور مثل ذلك القائد، بل شهدنا وضعاً أكثر سوءاً في عالمنا الإسلامي، حيث يخرج إلينا بين الفينة والأخرى مجموعة من الجهلة وهم يفتون الناس بأمور دينهم، وهم لايعلمون من الكتاب شيئاً، فأباحوا الدماء وانتهكوا الأعراض وضاعت الذمم في عهدتهم، وقد تمثل هؤلاء في التكفيريين الذين برزوا بشكل كبير في العراق. كما نجده اليوم في دول الخليج وربما نجده في بلاد اسلامية اخرى.
إن إختلاط التصورات البشرية مع المبادئ السماوية هو الذي أوصلنا إلى الحال الذي نحن فيه، فإننا بحاجة إلى المنقذ الذي سينتشلنا ليس فقط من الوضع المزري الذي نعيشه بل من التفسيرات الخاطئة والتصورات السقيمة التي لدينا عن الإسلام الحنيف، فتصحيح هذه التصورات هو الكفيل بتغيير أنفسنا، ثم تغيير حالنا على كافة الأصعدة.
|
|