الدين و رسالة الحياة الى المجتمع
|
*أنور عزّ الدين
هل هنالك علاقة بين حياة الانسان في هذه الدنيا وبين الرسالات السماوية؟
يقول البعض: إن الرسالات السماوية بما فيها الرسالة الخاتمة للرسول الأكرم محمد (صلى الله عليه وآله)، تدعو قبل أي شيء الى الذوبان والتضحية والإيثار، وهي مفاهيم لا تدع الانسان يفهم شيئاً من حياته التي فتح عينيه فيها، سوى أن عليه الموت من أجل الآخرين، ومغادرة الحياة الدنيا دامع العينين!!
لكن ببساطة إذا فتح الانسان – أي انسان- القرآن الكريم، واطّلع على سيرة المعصومين الاربعة عشر، سيجد بوضوح الشمس أن الدين الوحيد القادر على ايجاد العلاقة بين الجانب المادي والجانب المعنوي في حياة الانسان والمجتمع، وما نشهده اليوم من كوارث ومعاناة رهيبة في العالم، مما جنت يد الانسان نفسه، لهو خير دليل على تورط هذا الانسان في مستنقع الجانب المادي، وهو لايبرح يستغيث للخروج من أزماته ومشاكله في جميع نواحي الحياة.
ولذا يجب أن تفهم الرسالات الإلهية من جديد لا أن نجعلها جزءاً من واقعنا المتخلف، ونفسرها حسب أفكارنا التبريرية ونظراتنا السلبية، فهي الطريق الأوحد لخلاص البشرية مما يحدق بها من مشاكل وأخطار، ذلك أن الرسالات الإلهية، والتي تتجسد اليوم برسالة الإسلام، قادرة على أن تخلق الواقع السليم في بُعدين: الأول، في ذات الإنسان كفرد. والثاني، في كيان الإنسان كمجتمع، أي إن الاسلام يهتم ببناء المجتمع الحي كما يهتم ببناء الفرد.
لكن بدايةً، كيف نفهم الحياة برؤية دينية؟
يصف القرآن الحكيم رسالات الله بأنها حياة: "يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إذا دَعَاكُـمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ" (24/ الأنفال)، أي استجيبوا لما يعطيكم الحياة، والحياة هي القوة الكامنة في الشيء، والتي تعطيه القدرة على اكتساب الأشياء الأخرى وإذابتها في بوتقة واحدة وفي اتجاه معين.
فالبذرة الحيّة - مثلاً - تختلف عن البذرة الميتة، و وجه الإختلاف بينهما هو أن البذرة الحية حينما تتوفر لها فرصة النمو، تستمد من أشعة الشمس ومن أملاح الأرض ومن عناصر الماء المواد المفيدة لها، وتحولها كلها إلى تركيبة واحدة متجانسة، وتوجهها باتجاه واحد وهو النمو، فتتحول تلك البذرة الصغيرة إلى شجرة كبيرة متكاملة، أما البذرة الميتة فإنها سرعان ما تتحلل لتمتصها المواد المحيطة بها وتنتهي في الارض.
وهكذا الفرق بين النطفة الحيّة والنطفة الميتة. فالنطفة الميتة تتحول بعد مدة قصيرة إلى لا شيء، بينما النطفة الحية، تتحول بعد تسعة أشهر إلى طفل وبعد عدة سنين تراه قد أصبح رجلاً سوياً.
ولكن ما معنى الحياة في المجتمع؟ وما هو المجتمع الحي؟ وما هو المجتمع الميت؟
إن الاجابة على هذه الاسئلة، كفيلة بتوضيح قضايا كثيرة في المجتمع البشري، ومن أبرزها الحركات التغييرية والنهضات الإصلاحية التي تشكل ظاهرة متميزة في تاريخ الإنسانية.
إن المجتمع الحي هو تماماً كتلك البذرة الحية التي أشرنا اليها، فهو يملك القدرة على أن يمتص من حوله الإمكانات المادية والبشرية ويذوِّبها كلها في بوتقة واحدة، ويعطيها التفاعل ويوجهها من أجل بناء الحضارة الإنسانية التي تسير أبدا في إتجاه النمو والتكامل، بينما المجتمع الميت فهو كالبذرة الميتة، يفتقد خاصية الامتصاص والتفاعل والنمو، ومن ثم سرعان ما يتفسخ ويتفتت ومن ثم يتلاشى.
إن مجتمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مثلاً لم يكن عدد افراده في مكة المكرمة قبل الهجرة النبوية يزيد عن مائتي انسان مستضعف، ولكنه بعد أقل من ربع قرن، إستطاع أن يُحوّل المجتمعات الكثيرة المتواجدة في الجزيرة العربية، إلى مجتمع مسلم واحد، ويذوِّبها في هدفه الرسالي.
وإذا نظرت إلى خارطة العالم، لوجدت أن المسلمين، وبعد قرن ونيّف من البعثة النبوية، طرقوا غربا أبواب اوروبا عن طريق شمال إفريقيا، واقتحموا الشرق الاقصى في آسيا، وقد استطاعوا أن يذوّبوا كل المجتمعات والحضارات الموجودة في تلكم البقاع الشاسعة من الارض، ويصبغوها بالصبغة الإسلامية، ويخلقوا منها الامة الإسلامية الكبيرة. فهذا هو المجتمع الحي.
واما المثال على المجتمع الميت، فهو الامة الإسلامية اليوم، والتي انقسمت إلى دول وانطوت كل واحدة منها على نفسها وتجمّدت داخل حدودها، مما ادّى بهذا المجتمع ذي الأمجاد التأريخية العظيمة إلى ان يفقد شخصيته الإسلامية، ويضعف ويتفسخ من الداخل، ويصبح نهزة الطامعين، وأن تتعرض ثرواته وخيراته للنهب، وكرامته للسحق، وليصبح اليوم مجتمعا متخلفا يخضع لسيطرة القوى الاجنبية العظمى توجهه كيف شاءت، وتتلاعب بمقدراته أنّى يحلو لها.
والسبب في ذلك أن هذا المجتمع فقد مقومات الحياة المادية والمعنوية في وقت واحدة، يقول القرآن الكريم: "مُحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيَماهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً" (الفتح/ 29).
ان المجتمع الحي هو ذلك المجتمع الذي تكون علاقات ابنائه ببعضه قائمة على اساس القيم السليمة، والعمل الصالح، فالعلاقات الإيجابية المتفاعلة هي أهم شيء في تكوين المجتمع الحي، بينما المجتمع الذي تكون علاقاته قائمة على أساس العنصرية والإعتبارات القبلية والمصالح المادية والاقليمية، يكون كالجسد الميت الذي لا تلبث البكتريا والميكروبات الموجودة فيه أن تحلله وتفسخه وتحوله خلال مدة قصيرة إلى تراب وعظام نخرة.
|
|