قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الكتـاب المهجـور ؟!
خولة القزويني
سألتُ إحدى الأديبات من الدين المسيحي في حوار ثقافي: من هو قدوتك في الحياة؟ أجابت على الفور وبإيمان قاطع: الكتاب المقدس (الإنجيل). وكانت تستطرد بتفاخر إلى قداسة هذا الكتاب حسب نظرتها، وتعلن على الملأ انها استمدت مسيرتها من هذا المنطلق.
وعلى الفور غمرتني الحسرة وأنا أتساءل: كم كاتبٍ أو أديبٍ أو مفكرٍ مسلمٍ استمد روافد علمه من كتاب الله سبحانه؟...
القرآن الكريم قدوة ومنهلٌ يشرب من معينه الصافي النهج النقي والفكر السامي؟ هذا إذا لم يطعن في بعض مفاهيم كتاب الله ويحاول فيها جدالاً عقيماً ليثبت صحة مزاعمه وصدق مشتهياته، ونحن نعلم أن القرآن الكريم معجزة الإسلام الفريدة، فهو الكتاب الأولى في البلاغة والفصاحة وقد دحض النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الحجة عرب الجاهلية لما امتازوا به من قوة في اللغة ودقة في المنطق، فضلاً عن المزايا الأخرى التي يتفرد بها كونه دستوراً شاملاً لكل نواحي الحياة، وصالحاً على امتداد الزمان والمكان. وقد يتجاهل المثقفون المسلمون هذا الكتاب العظيم بوصفه منهلاً زاخراً بالمفردات اللغوية والصور البلاغية الجميلة والمحفز الأول على الدفق الفكري المنساب بسلاسة ولطف يكسب يراع الأديب زخماً شعورياً مقدساً لا ينضب، لهذا تجد الثقافة العربية في انحدار وانكماش بعد حقبة تاريخية خصبة، إذ أفلت الحضارة وغابت شمسها الوهاجة من العالم لتغرق في سباتها الطويل خاملة، خامدة، مترنحة بصوت المطربات بدلاً من صوت الله النوراني الذي ينساب في شرايينها فيلهبها حماسة وعطاء.
صار القرآن الكريم ـ للاسف الشديد ـ كتاباً مهجوراً، ونغمة آخذة في الذبول عند معظمنا، قد تطرأ على الوجدان في المواسم أو في لحظات الحزن والإخفاق، هي ترانيم الأموات الراحلين إلى القبور، وعزف شجي في المآتم، بينما يفترض أن نعيشه ويعيشنا، يتغلغل في أنفاسنا ومعاشنا ويلهج في نبض الصدور، نعلم الصغار تعاليمه وآدابه وجماليات الصياغة الربانية التي تدهش الفكر وتفجر الإبداع والابتكار من مكامن ومجاهيل عجيبة، فيه العلاج الشافي لكل ثغرة ولثمة مبعثها نقيصة العقل البشري.
للأسف ترك القرآن الكريم أغلب المفكرين والمثقفين ورحلوا إلى ثقافات أخرى سببت لنا الهشاشة في بنية الشخصية .. ومخجل أن بعض المسلمين يشعر بنقيصة عندما يسافر إلى الغرب، وكأن إسلامه عورة يداريها، لا هوية عريقة يتسامى بها. المسيحي يتفاخر بدينه .. بكتابه، ويتباهى بالصليب يتدلى على صدره، واليهود يعلمون أولادهم منذ الصغر تعاليم التوراة (حتى وهي محرفة بإيديهم) ويسبغون على التعليم الطابع الديني والعقائدي لأنهم يدركون أكثر منا أن وتر العقيدة أدق الأوتار تأثيراً في النفس والمدخل الأساس لبناء شخصية الإنسان، بينما مثقفونا يتجاهلون عن عمد أو عن جهل هذا الكتاب العظيم (القرآن الكريم) الزاخر بأدبيات اللغة وترانيم الحس الراقي الذي يسمو بالثقافة والعلم إلى أعلى القمم .. بل وكل النظريات العلمية المكتشفة حديثاً ظهر انها مدونة ومشار اليها في القرآن الكريم، لكن الجهل بقيمته جعله باقياً كالكنز المفقود حاضراً في الشكل غائباً في المعنى. ولكن أيضا .. لا أحد ينكر أن الحضارة الإسلامية ولاّدة بالفطاحل والعلماء والعباقرة ممن شربوا من معين القرآن الكريم، وبرعوا في تفسيره وانتهجوا سياسته وغرقوا في اتون بلاغته واتحفوا العالم بثروات لا تقدر بثمن، هؤلاء هم من حافظوا على المسيرة من الاندثار .. وصانوا الفكر الأصيل من أن تمتد إليه يد العبث والتزوير.. فلو خليت خربت.