المسؤول.. وواجبه الشرعي والوطني
|
د. طالب الرمَّاحي
يجب أن لانخجل من القول إن ثوب الديمقراطية في عراقنا الحبيب، لم يأت على قياس قادتنا، فأحدهم معه كمن يرتدي رداءً أكبر من مقاسه، فيتعثر معه في مشيته، أو كمن يدخل عالما غريباً لم يكن متوقعاً بنعيمه ونعومته، فراح منشغل بنشوة هذا العالم غير منتبه لما يجب أن يفعله أو لايفعله. منذ ست سنوات ونحن نراقب أخوتنا الوزراء وفي البرلمان وعلى كراسي المناصب الخاصة، فنجد أن اسلوبهم في التعامل مع الشعب والخلُقَ الذي نراه جلياً في ممارساتهم .. لاينسجم أبداً مع تاريخهم وثقافتهم اللذين عرفوا بهما، وهو أيضاً لايقترب مع ما وعدوا الناس به من قبل، ونحن نعتقد أن من أكبر مصاديق السياسي المخلص لوطنه ودينه هو (التواضع والوفاء بالوعد) وهذان الإثنان أصبحا بعيدان عند الغالبية منهم (بعد الشيطان عن فردوس الرحمن)، فالقفز على المباديء الدينية والأسس الخيرة هو مدعاة لأن يفقد السياسي أو القائد مصداقيته كقائد وكإنسان، وهو بذلك يدخل ضمن أحد الأطر التالية، إما أنه - وعن قلة دين وورع - مغرور بالموقع الذي هو فيه، وغروره هذا يقوده إلى استصغار الآخرين والتعالي عليهم وعدم احترام مشاعرهم في تصرفاته، أو أنه جاهل، وهو بذلك لايفقه ما يفعله ولا نتوقع من الجاهل غير القصور والتقصير، أو أنه انتهازي ووصولي، وبذلك فإن جلوسه على (الكرسي الذهبي) جعله يستشعر أن الهدف الذي يسعى إليه في الحياة قد تحقق وهذا هو كل الفتح .
ومن أكثر الممارسات السلبية لدى السياسي أو القائد هو الهروب عن المواطن والتحصن بعيدا عنه، وهذا ما نراه في غالبية نوابنا ومسؤولينا الكبار كالوزراء ووكلائهم والداخلين في دوائرهم. فالمفروض من (الوزير) أو(النائب) أن يكون قريبا من ممثليه ليكون على كثب من معاناتهم ومشاكلهم ولكي يشاركهم الرأي في كيفية وضع الحلول لها، وهذا أقل ما يأمله ويفكر بها المواطن عندما يختار نائبة وهو في طريقه إلى صندوق الإقتراع. لقد عشت في الهند سنوات طويلة في مقاطعة مهراشترا وعاصمتها (بومباي) ورأيت كيف تتخذ غالبية المقاطعات لنوابها شارعا خاصا وسط المدينة، فيه مكاتب لممثلي الشعب، وفي بومباي كان مثل تلك المكاتب في منطقة (كولابا) لنواب برلمان المقاطعة، لاتجد صعوبة ولا حرجا في لقاء النائب أنى ومتى شئت، وربما لاتحتاج في ذلك إلى موعد مسبق إلا إذا كان الأخير في إجازة أو لقاء مهم، فعندها يحدد لك المكتب وقت اللقاء، وكذلك فإن كل الوزراء أبواب مكاتبهم مشرَّعة للمواطنين، فلا يجد من لديه مشكلة أي صعوبة في لقاء الوزير متى شاء. وفي بريطانيا يمكنك أن تلتقي بعضو البرلمان من خلال قناتين في أي وقت شئت، الأول هو الاتصال بـ (الكمون هاوس) وفيه مكاتب لكل البرلمانيين، أو أنك تلجأ إلى مكتب النائب في منطقتك، أو تتصل به تلفونيا من أجل ترتيب موعد للقاء بكل شفافية ويسر. وإذا ما استثنينا بعض الدول العربية أو المتخلفة فإنك ترى ذلك شائعا في كل العالم، أي أن النائب والمسؤول يكون دائما في متناول رغبة المواطن إذا ما رغب في لقائه لسبب ما .
لكن ذلك لم يكن متوفرا لدينا في العراق، وهذا بالطبع يدعو إلى الأسف وخيبة أمل كبيرة ومريرة لدى شعبنا المظلوم، فلقاءك بأي وزير ... يُعتبر ضرباً من المستحيل، فمكاتبهم محصنة بأشخاص غريبي السلوك والأطوار، أقل ما يقال لك وأنت تبدي رغبتك بلقائه : أن الوزير غير موجود، أو أنه مشغول وعليك أن تأتي بموعد مسبق وإذا ما حاولت الحصول على الموعد فإنك سوف تجد نفسك في دوامة تجبرك على ترك اللقاء. وأتذكر أحد الوزراء كانت لي علاقة وطيدة معه وكنا نتبادل الزيارات في بيوتنا زمن المعارضة لنناقش الكثير من أخبار العراق ومعاناة شعبنا المظلوم، وفوق كل ذلك فإن (مصاهرة) قد حصلت بيننا مؤخراً، هذا الرجل عندما استوزر حاولت أن ابارك له، عملاً بأخلاقنا الإسلامية التي تحتم علينا التواصل والاحترام، فحاولتُ كثيراً لأتكلم معه وأبارك له فلم أفلح حتى يئست، واتذكر أني في ذلك الوقت أدركت تماما من أن الرجل قد جرفته الدنيا وأن المنصب الجديد قد أسكره ثم جرده تماماً من تلك الأخلاق التي كنا نعرفها منه، فتركته للزمن، وقد صدق حدسي، فعلى حين غرة فقد سعادة الوزير كل شيء وسقط في بئر عميقة .. لقد ذكرني ذلك بالحديث الشريف : من يتخذ أكتاف الناس مجلساً، فالسقوط قدره المحتوم، ناهيك من أن الإنسان الذي يحاول أن يتخذ من (الدين) ستاراً لمآربه الدنيوية فإن الله سوف يكشفه لامحالة، فمن غباء الظالم ما يعتقده في أنه محكوم بقضاء هذه الدنيا وحسب، ونسي أن ثمة (قاضياً) يشرف على هذه الدنيا وله فيها الحكم الفصل. فلابد للمظلوم ومهما كانت ظلامته صغيرة من أن يرى في يوم ما في هذه الحياة من يعيد إليه حقه ويرى خزي من ظلمه، وخاصة إذا ما أدركنا وفق المعايير الدينية من أن الدنيا هي اختبار، وأن المسؤولية أو المنصب هو إحد آليات ذلك الإختبار، وهذه الحقيقة الغائبة عن كل إخوتنا الغارقين في نعيم المناصب، واضحة وجلية في قول الله تعالى : ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب) آل عمران 179؟؟. لماذا إذن يحتقر مسؤولينا أناسهم ؟! ولماذا لايعلم أحد أين يتواجدون ؟، وإذا كانت الظروف الأمنية سببا في ذلك وإيمانهم بمقولة الإمام علي عليه سلام : كفى بالأجل حارسا (صفرا )، لماذا يستعصي على المواطن أن يعرف رقم هاتف الوزير أو النائب، وإذا عرفه بطريقة ما، فهو مغلق دائما ؟ .. ومَنْ وراء ذلك الإنتفاخ الشخصي والغطرسة والغرور، وهل هذا الإنقطاع الدائم بين الشعب العراقي ومسؤوليه هو في صالح بناء العراق أم هو (خلُقٌ) سوف يؤدي حتما إلى خراب من نوع آخر، أو هو على أقل تقدير سوف يشارك في تعطيل بناء هذا الوطن ؟ وهو في آخر المطاف خيانة حتماً.. مانراه من سلبيات لدى إخوتنا أصحاب الجلالة والسمو !! أهو قصور في (التجربة الديمقراطية) التي وردتنا جاهزة من الغرب !، أم هو خلل في أحزابنا التي ينتمي إليها كل النواب والمسؤولين الكبار تقريبا، أو هو يكمن في طبيعة وتركيبة المسؤول وثقافته الدينية والسياسية ؟! أم هو شيء آخر ؟!! ..
|
|