العولمة في الرؤية القرآنية (1 ـ 3)
التكامل والنهوض المجموعي وليس الصراع والإلغاء
|
*الشيخ ماجد الماجد
قبل البدء:
بحكم تتلمذي على أفكار وآراء و توجيهات سماحة آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي دام ظله، حاولت الرجوع إلى تفسيره (من هدى القرآن) في استلهام البصيرة القرآنية، فرأيت أن هذا التفسير القرآني مع مُضي اكثر من الثلاثين عاماً عليه يحمل رؤية حضارية شاملة، تحكي حاضر اليوم، وتنافس مستقبل الغد، فاستغنيت به عن أي مرجع آخر.. وأنوه أيضاً بأخي العزيز فضيلة الشيخ محمد العجاج الذي أفادني بملاحظاته وآرائه البناءة.
مفهوم العولمة:
العولمة في المصطلح الشائع حاليا لا تحمل الخصائص والميزات والدلالات المرادة في القرآن الكريم، لأن مفهوم العولمة الذي تبتغيه رسالة السماء يعطي النفع الكامل للبشرية، يحقق مرضاة الله، فهو مفهوم يجمع بين خير الدنيا وسعادة الآخرة. فالعولمة المشاعة تخفي في داخلها بعضا من ألوان العسف والحيف، في وقت نعلم أن العولمة قرآنيا ظاهرها وباطنها واحد، وذات هدف يتعالى على قيم الأرض، وترفض أية شائبة تخالط مفهومها نظريا أو عمليا. من هنا نقول :هل العولمة هي العالمية التي استخدمها القرآن الكريم بصيغ متعددة مثل العالمين والعالم؟. لا شك أن صبغة الله دونها كل الصبغ، والحقيقة ذات الحقيقة هي المطلوبة لله، فهو سبحانه وتعالى لا يأمر بشيء ويريد غيره، ولا يعطي ناقصا أو منقوصا. ولهذا فالعالمية القرآنية أشمل لفظا ومعنى، وإطارا ومحتوى، وإذا أردنا المساواة بين اللفظين فبالتأكيد أن كلام الله أفضل وأكرم من أي لفظ، فالتعبير القرآني خال من نقص، والاستخدام البشري يعتريه النقص.
فالعولمة لا تعني العالمية التي ينص عليها القرآن الكريم؛ من حيث الطرد والجمع، إذ الإسلام بتعاليمه التي جاءت في القرآن لم تنـزل لاستصلاح العرب باعتبارهم عربا، وإنما هم قوم كبقية الأقوام، إذ القرآن ليس كتابا قوميا يدعو إلى تفضيل شعب معين ؛ وإنما نظرته سامية تتجسد في قوله تعالى: "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ". فهو لا يميز العرب بميزات خاصة بهم، إذ لم ينل العرب من القرآن كقومية إلا لغته، وحيث لم يلغ القرآن التعددية الثقافية للشعوب الداخلة فيه والتي في أصلها موروث تجارب البيئة التي عاشوها، ولا تُناقض مبدأ التوحيد.
فالعادات والتقاليد الأصل فيها الحل والإباحة ما لم يرد مقابلها نص أو تحريم شيء منها. فاللباس وطريقة الأكل، وطبيعة المواجهة للأعداء وغيرها جزء من موروثات الشعوب، تحمل قيما اجتماعية من حقها الاعتزاز بها. فلم يطلب الإسلام من سلمان الفارسي وصهيب الرومي، وبلال الحبشي الانسلاخ من ثقافتهم وبيئاتهم وطرائق معيشتهم والذوبان في الأنموذج العربي حتى يخدموا الإسلام وينصروا الدين. بعكس العولمة التي تفرض لونا معينا من الثقافة، أو المنهجية وتطلب من الآخرين الذوبان فيها.
يدعي أصحاب العولمة أنها مرادفة للمصطلح الإسلامي، وأنها نظام الطبيعة والسنن المودعة في الطبيعة، أي أنها تشير إلى مجموعة من القوانين والمفاهيم والسنن التي تتسم بقدر معقول من الثبات عبر مرحلة زمنية نسبية، يتحرك الواقع بمقتضاها، ولا يمكن فهمها بدونه، فهي مصدر هوية النظام. مع أننا نرى أن هوية نظام العولمة هو نتاج إنساني ولد بفعل ممارسات الإنسان الخاطئ منها والصحيح، وهو اصل في التشكيل الحضاري والسياسي الغربي، وهو نظام يدور في إطار العلمانية الشاملة.
ومن مناهج هذا النظام أن يصبح أحد الشعوب هو (السوبرمان) المقدس، الذي يرى بقية البشر والطبيعة باعتبارها مادة محض يمكن هزيمتها وتوظيفها. وقد أعلن الإنسان الغربي أنه الذات المقدسة، وأن العالم قد انقسم إلى ذاته والآخر، والقوي والضعيف، الغازي والمغزو، والمسلح والأعزل، والغرب وبقية العالم. كما أن الإنسان الغربي يرى العالم قد تحول إلى ساحة لنشاطه، خاضعا لهيمنته، تابعا لقوانينه، وأنه تحول إلى مادة استعمالية، مصدر للموارد الطبيعية، مصدر للطاقة العضلية الرخيصة، سوق تباع فيه السلع، وفي الأخير حيز يمكن أن تصدر إليه المشكلات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
صراع الحضارات أم نهاية التاريخ:
الوحدة هدف إنساني يسعى من أجله البشر، وهو في الوقت ذاته غاية الخليقة، فالله لم يخلق الناس ليعذبهم بل ليرحمهم، كما في الروايات، ويجعل الأخوة بينهم، ولكنه سبحانه حمّلهم مسؤولية تحقيق هذا الهدف السامي، بعد أن هيأ لهم كل أسباب تحقيقه من رسل وكتب سماوية. فالصراع بين الأمم يجب البحث عن سبل إنهائه، ولا ينبغي السأم منه أو الخوف من مجابهته، فالصراع حاله حال التخلف والفقر والمرض وككل المشاكل الحضارية للبشرية التي يجب السعي من أجل تخفيف وطأتها على أقل تقدير.
"وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" أي مؤمنة منذ البدء، "وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ". دون أن يكون الاختلاف مطلوبا من الله ولكن ضعف العقلية، وضغط الشهوات هما اللذان يكرسان الاختلاف بين الأمم."إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ".
ولهذا لم يكن الإيمان والكفر يوما أبدا مرتبطا بطينة الناس وفطرتهم، فلهذا يبين القرآن عكس ما يتصور البشر إذ يقول تعالى: "وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا"، خلقهم الله بصورة واحدة، وأعطاهم جميعا قدرا من العقل يكفي لهدايتهم، ولكن البعض استفاد من عقله، وغفل عن ذلك آخرون، فكان الاختلاف نتيجة اختيارهم وفعلهم. (فَاخْتَلَفُوا) وأمهلهم الله حتى يتم اختبارهم. "وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ"، من هنا نقول أنه في مطلع عقد التسعينات امتزجت نظريتان مصدرهما الأساسي أمريكا :
الأولى: رائدها هو صمويل هينتنغتون وعنوانها: (صراع الحضارات) وبذلك تخللت مقولة الصراع الحضاري القادم بين الغرب والإسلام بعد أن سقط العدو التقليدي للغرب وهو الشيوعية.
الثانية: رائدها (فوكوياما) وعنوانها (نهاية التاريخ)، والتي وصلت إلى خلاصة مفادها أن الحضارة الغربية قد انتصرت على غيرها، وهي الحضارة القائمة الآن.
ويبدو أن النظريتين تكملان بعضهما البعض، وتستهدفان العالم كله، وليس فقط الإسلام والمسلمين تحديدا. وذلك من خلال دفع كل نظرية في العالم باتجاه القبول بإحداها. فالذين يرفضون أطروحة (صراع الحضارات) عليهم القبول بأطروحة (نهاية التاريخ) وأن العالم تحكمه حضارة واحدة تحت مظلة العولمة، أو في إطار (القرية الكونية الصغيرة) أو (الحضارة الإنسانية الواحدة) وهي القائمة الآن، الغربية الملامح والسمات، الأمريكية في قيادتها وفي توظيفها. ولا بد من القول: أن الصراع لن يكون بين العولمة و الإسلام فقط؛ وإنما بين أوربا وأمريكا أي في الدائرة الغربية نفسها، وإن كان على المصالح في المنطقة الإسلامية والعالم العربي. والقرآن يطرح الصراع باعتباره واحدا من سنن الكون للسير نحو الأفضل، "وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا"، ولكن القرآن لا يصر على الصراع، فهو يفضل السلم أولاً: "ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً" ويعتبر القرآن الاختلاف بين الناس من أجل أن يمارس كل دوره بحرية وتتنامى تجربة البشرية عبر تنوعها، ولكي يُغني كل فريق تجارب الآخرين بما اكتشفوا من تجارب، وبالتالي ليتعارفوا. "يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"، والقرآن يعطي مشروعية للتقسيمات الطبيعية النافعة، ولهذا نفهم أن التعارف بين الناس واحداً من أهم مقاصد القرآن والشريعة الإسلامية، فلولا معرفة الناس لما اكتملت حكمة الابتلاء في الخلق، والابتلاء لا يتم إلا بالحرية والمسؤولية، ويأخذ التنافس دوره في عجلة الحياة إلى الأمام. فحكمة الاختلاف هو التكامل لأنه تنافس على الخيرات، وليس الصراع والتطاحن، فمن دون التعارف كيف يتم التعاون، فعلى جميع الناس أن يكتشفوا إمكانات بعضهم البعض ليتبادلوا الخبرات والخيرات.
من هنا التكامل في العالم والنهوض المجموعي ليس بالصراع أو نهاية التاريخ، وإنما عبر التعارف والتلاقي. والقرآن يوضح منهجية للجمع، ولا يمارس الإلغاء، فكما أن القرآن دستور الديانة الإسلامية، وهو دستور الأمة جمعاء، وأنه كتاب بصائر ورؤى، وفيه تفاصيل التشريع الإسلامي، ومع ذلك يوضح أن الكتب السماوية كلها كتب هداية، وتهدي إلى الصراط المستقيم، وكان النبيون يحكمون بها. "إِنَّا أَنـزلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ"، "وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ". فالقرآن لم يلغ الكتب والرسالات السالفة، وإنما المطلوب الأخذ بالتشريعات المستجدة ليواكبوا مسيرة التكامل وذلك في ظل الرسالة الإسلامية.
|
|