شيء من العدل
|
محمد علي
شكت امرأة تسمى سودة بنت عمارة الهمدانية إلى الإمام علي عليه السلام أحد ولاته الكبار وهو والي صدقاته على الأهواز وكانت تحت سلطته منطقة واسعة. تقول سودة: "لقد جئت إلى علي بن أبي طالب في رجل ولاه صدقاتنا فجار علينا، فصادفته قائماً يصلي، فلما رآني انفتل من صلاته ثم أقبل علي برحمة ورفق ورأفة وتعطف وقال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، فأخبرته الخبر، فبكى الإمام ثم قال: اللهم أنت الشاهد علي وعليهم، وإني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك، ثم أخرج قطعة جلد كتب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم (قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) فإذا قرأت كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام، ثم دفع الرقعة إليَ، فو الله ما ختمها بطين ولا خزمها فجئت بالرقعة إلى صاحبه فانصرف عنا معزولاً.
في هذه الواقعة التاريخية الكثير من الدروس البليغة في السياسة والحكم والإدارة والتعاطي مع أمور الناس حتى ولو كانت بسيطة أو صغيرة، فربما لم يكن ما فعله ذلك الوالي يستحق العزل من منصبه ولكن الإمام علي (ع) كان ينظر من زاوية مختلفة وحساسة جداً حيث أن التهاون في الأمور الصغيرة والتي قد تبدو عادية في نظر البعض هو ما يؤدي إلى الفساد والظلم، ومع أن الفارق كبير زمنياً وحتى فيما يرتبط بالإمكانيات المتوفرة بين عصرنا وذلك العصر، حيث الوثائق والحقائق اليوم تظهر بوضوح، كم يعاني الناس من إهمال وتقصير من قبل المسؤولين ومن بيدهم القرار، ومع ذلك ليس هناك استجابة لكلام الناس ومع أنهم " يحظون" بمجلس "نيابي" او "مجالس محافظات"، وديوان رقابة ومنظمات شفافية وجمعيات سياسية وحقوقية وكلام طويل وعريض عن الديمقراطية والحقوق الإنسانية وإعلام يتحدث يومياً عن فضائح فيما يرتبط بالفقر ومشاكل الإسكان ،وما أشبه إلا انه يبدو أن كل هذه الأمور لا تستدعي عزلاً ولا تغييراً ولا يبدو أن في الأفق شيئاً من هذا القبيل.
إن صورة ومكانة الدولة ليست في بناء ناطحات السحاب ولا في الوفرة المالية .. وإنما في الاهتمام بالإنسان مهما كان اسمه أو لونه أو موقعه أو حتى دينه، وقد قالها الإمام (ع) في عهده لواليه على مصر، مالك الاشتر(رض): "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان إما أخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق" وهو ما نحن بحاجة إليه، فما قيمة الكلام عن موارد النفط ومليارات الموازنة، في بلد لايملك (على سبيل المثال فقط) الكثير من ابنائه 100 متر من "ارض الله" لبناء منزل بسيط يحفظ الكرامة، ولو امتلك الكثيرون منهم ايضا هذه الامتار فإنهم لايتمكنون من بنائها ! لفقرهم. وما قيمة الكلام عن هذه الموارد، وعن مشاريع هزيلة تفتقد للتخطيط والاولويات، وعن حقوق الانسان والمواطنة في الدستور وشعارات وبرامج الاحزاب والكتل والمسؤولين ،في بلد تعاني فيه آلاف ألاسر من تدني مستوى المعيشة والبطالة و قلة الدخل، ويشكون ذلك باستمرار، إلاّ إذا كانت هذه المليارات والموارد لغير هؤلاء المواطنين، فذاك شيء آخر!، أما إذا أردنا أن نتكلم عن بناء دولة حقيقية تهتم فعلا بمواطنيها وتحفظ كرامتهم وماء وجههم وحقوقهم، وتوزع مواردها بعدالة بينهم، فينبغي أن نبني أول أساسيات هذه الدولة وأهم شيء فيها وهو الإنسان الذي يعتبر رأسمال حقيقي في كل تنمية ونهضة وحضارة، ولذلك ينبغي أن نسخر الجهود والإمكانيات لكي نرتقي بواقعنا إلى وضع تتوفر فيه وسائل الحياة الحرة الكريمة للجميع من دون استثناء، بعيدا عن الاستئثار و فسح المجال لفايروس" الطبقية المقيتة"، فيرى الناس أنفسهم أصحاب فرص متساوية أو متقاربة على الأقل في وطن أصبحت فيه الفوارق "فاحشة" بين طبقات ثرية متخمة بكل وسائل الرفاه من أراض وأموال لا حصر لها، ومراكز قرار، او تأثير في هذه المراكز !، وبين طبقات فقيرة تبحث عن فرصة عمل ومايسد رمقها وسط امواج الغلاء المتصاعدة يوميا كـ"تسونامي" لايرحم، او موظف بسيط، وعجوزة وعجوز يتسول حقه على ابواب الرعاية الاجتماعية ويحمل او يقرأ كل "العوذ والطلاسم" عله يحظى بعلاوة او "عيدية" او "مكرمة" قد لا تعادل فتاتاً من مصروف طفل لنائب أو وزير أو مسؤول. وصدقت سودة بنت عمارة الهمدانية حينما تحدثت عن الإمام علي عليه السلام في بيتين جميلين من الشعر :
صلى الإله على روح تضمنها قبر فأصبح فيه العدل مدفوناً
قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً فصار بالحق والإيمان مقروناً
والله من وراء القصد.
|
|