ابن مفرِّغ الحميري.... الشاعر الحر
|
منذر الخفاجي
هو شاعر حلق في أجواء الحرية وعشق كلمة الحق فضحى من أجلها وعاش حياته يتنقل هارباً من بطش السلطة الأموية التي حاربها بلسانه فكان كالسيف القاطع على الحكام الأمويين وعمالهم ففي ذلك العهد الدموي لم يتلكأ عن ابداء رأيه أمام قوى الطغيان أو إعلان سخطه ضد الظلم والتعسف الأموي، حورب وسجن وعذب ولكن كل هذه الأساليب القمعية لم تستطع إسكات لسانه في اطلاق الأهاجي اللاذعة التي سخر بها من الطغاة الأمويين وكشف بها عن موبقاتهم وجرائمهم فشاعت أهاجيه وذاعت على لسان الناس حتى تغنوا بها في الأمصار والأقطار فكان ما عاناه من التشرد والعذاب والتيه والقيود بأنه (ما لا يصبر عليه لا إنس ولا جن ولا يحتمله إلا الحديد) كما وصف من شاهده والشاعر يعلم جيداً سر النقمة التي مني بها ورغم ذلك لم تقعد به الآلام والقيود عن إداء رسالته كشاعر حقيقي دعاه الواجب الانساني الى الإسهام في تحطيم الأصنام الأموية ومجابهتها بكلمة الحق مهما كلف الأمر.
ولد يزيد بن زياد بن ربيعة الحميري في البصرة ونشأ بها وكان يتقن العربية والفارسية ولم تشر المصادر الى سنة ولادته، بدأت أهاجي يزيد بن مفرغ السلطة الأموية عندما رفع صوته معلناً الاستياء من استلحاق زياد بن أبيه وضمه الى بني أبي سفيان من قبل معاوية وكان زياد في ذلك الوقت والياً على البصرة من قبل معاوية فقال ابن مفرغ يهجوهما معاً:
ألا أبلغ معاوية بن حربٍ مغلغلةً من الرجال اليماني
أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ وترضى أن يقال أبوك زاني
فأشهد أن رحمك من زيادٍ كرحم الفيلِ من وَلَدِ الأتانِ
وأشهد أنها وضعت زياداً وصخر من سمية غير داني
كما كذَّب زياد بن أبيه في إدعائه أن سمية من بني تميم فقال:
فأقسمُ ما زيادٌ من قريشٍ ولا كانت سميةُ من تميمِ
ولكن نسلُ عبدٍ من بغيٍ عريق الأصل في النسب اللئيمِ
وقال في زياد بن أبيه وإخوته الثلاثة لأمه:
إن زياداً ونافعاً وأبا بكرة عندي من أعجب العجبِ
إن رجالاً ثلاثة خلقوا من رحم أنثى مخالفي النسبِِ
ذا قرشي كما يقول وذا مولىً وهذا أبن عمه عربي
وزياد هو ابن أبيه ثم إدعى أنه ابن أبي سفيان ونافع هو ابن الحارث بن كلدة الثقفي وأبا بكرة هو نفيع بن مسروح وثلاثتهم أخوة لأم واحدة وهي سمية.
كان ابن مفرع يعلو بصوته بهذه الأهاجي في الأسواق غير آبه بقمع السلطة لمن يريد أن يتفوه بكلمة ينتقدها فكان مصير ابن مفرغ هو السجن والتعذيب، وعندما هلك زياد بن أبيه سنة 53 للهجرة، تولى البصرة ابنه عبيد الله بن زياد وكان أخوه عباد بن زياد والياً على خراسان فهجاه ابن مفرغ بأقذع هجاء فحبسه عبادة مدة ثم أطلقه ولكن ابن مفرغ واصل حربه على عباد ابن زياد وأخيه عبيد الله، وهجاهما وهجا أباهما وراح يذيع مخازيهما وينشر فضائحهما بين المسلمين دون هوادة كل ذلك وهو هارب يتنقل بين البصرة والشام ومدنها ويتحول من بلد الى بلد وكان هروبه من عباد يهجوه ويكتب كل ما هجاه به على حيطان الخانات فقد اختار الشاعر جدران الخانات لكثرة طرّاقها وتنوع بلدانهم وبذلك تتسنى الفرصة المناسبة لعدم معرفة كاتبها والقبض عليه كما يتهيأ الظرف المناسب لانتشار تلك الأشعار بين أكبر عدد من الناس وبين البلدان المختلفة وكانت الأهاجي التي كان ابن مفرغ يقولها (او يكتبها) لاذعة وفيها من السلاسة ما يجلعها سريعة الحفظ فكان مما قاله:
أعباد ما للؤمِ عنك محوَّلُ ولا لك أمٌ في قريشٍ ولا أبُ
وقل لعبيد الله ما لك والدٌ بحق ولا يدري إمرؤٌ كيف تنسبُ
وله الكثير من مثل هذين البيتين من الهجاء والجريء وقد ركز أشد التركيز فيه على مسألة عدم عفة سمية وعدم طهارتها فصب ابن مفرغ جام غضبه على عبيد الله بن زياد وهو يراه بأم عينه يرتكب الجرائم ويتطاول على الأشراف وهو دعي حتى إن عبيد الله قال: ما هجيت بشيء أشد عليّ من قول ابن مفرغ:
فكر ففي ذاك إن فكّرت معتبر هل نلت مكرمة إلا بتأميرِ
عاشت سمية ما تدري وقد عمرت إن إبنها من قريش في الجماهيرِ
والواقع أن عبيد الله كان كاذباً في قولته وإنما قالها ليصرف النظر عن باقي الأهاجي التي أقضت مضجعه فيه وفي أبيه و أمه وأخيه خاصة منها تلك التي كشف فيها ابن مفرغ حقيقة مأبونية عبيد الله بن زياد وهي في ديوانه مثبتة وآثرنا الإعراض عنها.
قامت قيامة ابني زياد وهما يريان هذه الأشعار وأمثالها مكتوبة بالجص على الحيطان ويتناشدها حتى صبيان أهل البصرة وتنتشر في البلدان فأشتكى عبيد الله بن زياد الى معاوية في شأن ابن مفرغ وكان عباد بن زياد قد جمع من قبل كل شيء هجاه به ابن مفرغ وكتب به الى أخيه عبيد الله فبدأت المطاردة الرسمية وضاقت الأرض على ابن مفرغ حتى قبض عليه معاوية فسلمه الى عبيد الله بن زياد لينتقم منه فصب عليه ألوان العذاب المبتكر والتنكيل باساليب اخترعها ابن زياد فكان من هذه الأساليب أنه كان يسقيه التربذ – وهو شراب مسهل – في النبيذ ويحمله على بعير ويقرن به خنزيرة فأمشاه بطنه مشياً شديداً فكان يسيل (ما يخرج منه) على الخنزيرة فتصيء، وكان يطاف بأبن مفرغ في أزقة لابصرة وأسواقها والناس يصيحون لما يسيل منه فلما ألحوا أمر به فأنزل فأغتسل فلما خرج من الماء قال:
يغسل الماء ما فعلت وقولي راسخ منك في العظام البوالي
فلما طال حبسه بعث رجلاً أنشد على باب معاوية وجماعة من اليمن كانوا على باب معاوية:
أبلغ لديك بني قحطان قاطبة عضّت بظهر أبيها سادة اليمن
أمسى دعي زياد فقع قرقرةٍ يا للعجائب يلهو بأبن ذي يزن
فدخل أهل اليمن الى معاوية فكلموه فوجه رجلاً على البريد في اطلاقه فصار الى سجستان فأطلقه وقرب إليه دابة من بغال البريد فلما استوى عليها قال:
عَدَس مالعبادٍ عليكِ إمارة نجوت وهذا تحملين طليقُ
طليق الذي نجى من الحبس بعدما لاحم في دربٍ عليك مضيقُ
ذري وتناسي ما لقيتِ فإنه لكل أناس خبطة وحريقُ
قضى لكِ حمحام بأرضك فالحقي بأهلك لا يؤخذ عليك طريقُ
والبيت الأول شاهد مشهور في النحو على أن (هذا) بمعنى الذي والكلام عليه في الخزانة واللسان.
ولم ينقطع ابن مفرغ عن هجائه الأمويين وقد بين في أشعاره إن السجون والتعذيب لن تثنيه عن إطلاق كلمة الحق يقول في إحدى قصائده وهو في الحبس:
حيّ ذا الزور وأنهه أن يعودا إن بالباب حارسين قعودا
من أساوير لا ينوون قياماً وخلاخيل تسهر المولودا
وطماطيم من سبابيج غتمٍ يلبسوني مع الصباح قيودا
لا ذعرت السوام في غلس الليل مغيراً ولا دعيت يزيدا
يوم أعطي من المخافة ضيماً والمنايا يرصدنني أن أحيدا
وكان الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) قد تمثل بالبيتين الأخيرين حين بلغته بيعة يزيد بن معاوية فعلم من حضر أنه سيخرج عليه. واصل ابن مفرغ في هجاء أبني زياد وأبيهما ومعاوية حتى بعد أن أودع في السجن وتلقى أنواع التعذيب فلم يذعن لهم فأمر ابن زياد أن يرد على عبّاد أخيه ووكل به رجالاً ووجههم معه وأمرهم أن يأخذوه بمحو ما كتبه على الحيطان بأظافيره... فكانوا إذا دخلوا بعض الخانات التي نزلها فرأوا فيها شيئا مما كتبه من الهجاء أخذوه بأن يمحوه بأظافره فكان ابن مفرغ يفعل ذلك ويحكه حتى ذهبت أظافره فكان يمحوه بعظام أصابعه ودمه ورغم ذلك استمر في هجائه فكان يتألم لما آل إليه الناس جراء ظلم بني أمية وخاصة بعد مقتل سيد الشهداء الإمام الحسين (ع) وأهل بيته واصحابه وسبي نسائه فيقول:
كم يا عبيد الله عندك من دمٍ يسعى ليدركه بقتلك ساعي
ومعاشر أُنُفٍ أبحتَ حريمهم فرّقتهم من بعد طول جماعِ
إذكر حسيناً وابن عروة هانئاً وأبني عقيلٍ فارسِ المرباعِ
توفي ابن مفرغ عام 69 للهجرة.
|
|