ملامح كربلاء في شعر حسب الشيخ جعفر
|
*علي حسين يوسف
يستوحي الشاعر حسب الشيخ جعفر من حادثة الطف مادة الهامه وطاقة عاطفته فيصوغ منها صوراً جديدة على نسق المناخ الشعري التجديدي الذي مثل ثمرة الشعر العربي الموروث. ويمثل هذا اللون في شعره صدىً لاستجابة الشاعر لمؤثرات البيئة من حوله فهو يعبر بأقصى عاطفة ماتلقاه ذهنه وهو صغير من قصص الطف، فقد حملت قصيدته (الصخر والندى) احساساً مشبعا بمؤثرات البيئة الشيعية وعبرت عن مدى تأثره بها، إذ اختزن الشاعر الذي ولد ونشأ في مدينة العمارة، في وجدانه تلك المؤثرات للموروث الشيعي الراسخ والممتد والذي تبلورت حوله في الضمير الشعبي كافة مشاعر التظلّم والبطولة والوفاء والثبات والفداء وقد انعكست هذه المشاعر وامتدادات هذا التأثر في قصيدته بما توارثه من لوعة وحزن واجلال. فعاش الشاعر هذه الحادثة على مستوى الفكر والواقع ووجد فيها صوراً أخرى للتضحية فهي ينبوع لكل الدروس العظيمة فصور هذه الدروس بهالات القداسة والاصرار البطولي المضمخ بالاشلاء والدماء والرؤوس المقطوعة:
الجسدُ المنطفئُ المطحونُ بالحوافر
باقٍٍ على الطفوف
والرأس من بابٍ الى بابٍ على رماحهم يطوف
فمن يلمُّ لحمي العالق بالخناجر؟
وينزع السهم الذي يخترق الخواصر؟
وراء هذا الرأس مثل طائر
... وحينما استقرّ بي المطاف
رأساً وحيداً، مترباً، مقطوع
في طبقٍ من ذهبٍ يضوع
بالمسك والحناء
رأيتُ وجه أمي الزهراء
مبللاً، طوال ليل الموت، بالدموع
ورفرفت حمائم
تؤنسني، طوال ليل الموت، كالشموع
يتعاظم تشبث الشاعر بالصورة على قدر تعاظم ضغط المأساة على وجدانه واحساسه ليمنحها بعداً أعمق من أبعادها التراجيدية فيرسم صورة الحزن المقدس ويوحد نفسه مع الصورة ليلبي نزوعه النفسي الملح الى ان يكون حاضراً ويتحول صوت الشاعر الى أنين هادر وسط الصحراء، وسط النبال والسيوف ليمتد الى اعماق الوجدان الشعبي المقهور الناقم الظامئ للعدل:
أُثخنتُ في مشتجر النبالِ
فأدركوني، قطعوا أوصالي
وعلّقوا رأسي على أسنة العوالي
ياصيحة البحر، وياعواصف الرمال
غطّي جبين الشرق بالسحائب الثقال
وأغرقي جوع الثرى ولوعة التلال
وانبتي قواطع النصال
يقطف منها غاية الآمال
فتى بنيران الحروب صال
إن الشاعر يدعو الى تأمل تلك الروح العظيمة... روح الحسين عليه السلام البطولية، فالاحساس بالظلم والاحباط نتيجة التسلّط والقهر، دفع الشاعر الى التوجه الى روح أبي الاحرار الذي فضّل الموت والخلود على حياة الخنوع والفناء. وتتعدد صور الشاعر حول مأساة الطف ويندمج في وقائعها ليعطي سمة الحزن قيمة سامية:
ايتها الريح التي تحملني فوق امتداد القنن
تغسل وجهي بالندى اصابع السحرِ
تلمسه أكفُ طفلٍ مهمل الشعرِ
عيونه النهر الذي أرضعني
واحتضنت ضفافه طفولتي الشريدة
فالصورة تغشاه فيتذكر نفسه جالساً يصغي بألم وخشوع الى قصص مقتل الحسين عليه السلام فتغرورق عيناه لمصرع الحسين مع أهل بيته واصحابه:
ايتها الريح التي تحملني
اوقدت في ليل الخيام شمعة
تضيء وجه طفلة ودمعة
ويؤكد الشعر تفاعل قضية الحسين عليه السلام على مر الدهور مع الوجدان الشعبي والضمير الانساني:
ايتها الشمس
طاف على الرمح، وها عاد الى منبته.. الرأس
حياً، مكراً، بيرقاً مغبر
وتنبض روح الوفاء في موقف العباس في قصيدة الشاعر (الغيمة العاشقة)
حيث يبدؤها بمقطع (صوت في الريح) وهو صوت الام الرؤوم ام البنين وهي تناجي ابنها العباس كما تناغي الام طفلها:
وشممتُ ثوبك في غبار الريح راية
ياوردة البستان، ياطفلي المدلل
لو أضمّك في ضلوعي
وأشدّ اذيال النهاية وهي تفلت بالبداية
وتعود طفلاً، تاجك الاشواك تزهر في دموعي
أترى أصدّق انهم قتلوك؟
كيف كبرت في ليل الخيام؟
وشببت غصناً فارعاً، وفماً تقلّبه الازاهر باشتهاء
ورجولة تتأوه النسمات لو مرت يسربلها الإباءُ
وتحمل الموت المكبل كالنمور على يديك
وتجوس في ادغال ليل اللاجئين وحيدة في مقلتيك
كضياء قنديل وحيد في غبار الريح راية
أكبرت؟ ياغصنا تفتح في الملاجئ والصحارى
أطعمته قلبي وادمعي الغزارا
فزها وماد، كبرت في ليل الخيام؟
وشببت واشتدت يداك
والريح وهي ثقيلة تسفي الغبارا؟
أترى رحلت فلا أراك
ولا يحط على فؤادي ساعداك
كحمامتين صديقتين
كما اتيت الي يوماً مقلتاك:
((أماه جوعان))...!
كأن عاد الزمان الى الوراء
وما تلمست الاصابع غير ثوبك في غبار الريح راية
وتتصاعد هذه الاصوات الثاكلة فيرسم بها الشاعر صوراً بكائية، فالفقيد ليس ككل الناس وقد تنوعت جوانب عظمته فيعددها الشاعر من خلال اصوات أمه الثاكلة:
تلتف في الروح الغصون ثقيلة، ويسف طائر
يطوي البراري الموحشات بلا مسامر
ويشم رائحة البحار ولمعة الماء المسافر
يا دقة في الصدر، ياصخراً ترن به الحوافر
من اين...؟ واخضرت فلاة الروح مزهرة المنائر
لا تسبل الهدب الطويل
يامن يجود مع الاصيل
ببقية في الصدر عالقة كآخر ما يسيل
من ماء قربتك التي ثقبت
... أتسمع كيف يطوي البيد حافر؟
تلوي عباءته الرياح وتشرئب له النخيل
لا تسبل الهدب الطويل
يأتي إليك محملا بالماء، نجدي البشائر
يأتي فتشرق بالقنا هذي البوادي والحواضر
يادقة في الصدر تصمت مرة، فيفر طائر
|
|