خطوات عملية نحو التزكية
الخطوة الثانية: غضّ البصر
|
*السيد سجّاد المدرسي
من أكبر نعم الله عزّ وجل على الانسان في جسمه هي نعمة البصر، والتي لولاها لتبددت جمالية الحياة لديه، ولذلك نجد حرص الاطباء على توصية الناس الحفاظ على هذه النعمة ويجرون بحوثاً طويلة للمحافظة عليها وعدم فقدانها كما هو الكثير من أجزاء أجهزة بدن الانسان التي يعجزون حتى الآن من تعويضها او الابقاء على حيويتها.
إنه حقاً لجهد كبير ويحضى بتقدير وتبجيل، حيث يبذل علماء الطب ما بوسعهم لاعطاء الانسان الطرق الناجحة ليحتفظ بحاسّة البصر، لكن هذا ليس كل شيء، لأن الجهد العلمي للاطباء يتوقف عند جهاز الإبصار الكائن في أعلى الرأس، فهم يبحثون في الشبكية و الؤبؤ والعروق الدقيقة والاعصاب المرتبطة بالدماغ، وغير ذلك، لكن ليس بوسعهم التدخل في عملية اختيار الشيء الذي سيضع الانسان عينه عليه وحتى الآثار المترتبة على ذلك. مثلاً؛ ليس هنالك طبيب أخصائي في العيون يمكن معالجة عين دأبها مراقبة الناس والاحتراق حسداً مما لديهم من نعم الله. أو ان البعض يجلس على مسافة قريبة من شاشة التلفاز، لاسيما الاطفال فيما يتعلق بألعاب الحاسوب وغيرها، كل ما يمكنه الطبيب هو النصيحة والتوصية بالجلوس على مسافة معقولة أمام الشاشة الصغيرة.
هنا يأتي دور الانسان سواء كان مصاباً في عينيه أم سالماً يحضى بعين وسيعة وحادة ( ستة على ستة)! ليفعل إرادته في هذا المجال، ويأخذ بزمام البصر ويلجمه قبل ان ينطلق هنا وهناك، لكن هذا لا يتم إلا بلجم النفس الأمارة بالسوء، فالنفس هي التي تحرك جهاز الدماغ للبحث عما تشتهيه او تستهويه. وإلا ليس ممكنا او معقولاً ان ينظر الانسان الى لاشيء، إنما هنالك هدف وغاية من خلال النظر الى شيء ما، وهنا يأتي القرآن الكريم ليعطي البصر أهمية كبيرة في مصير الانسان، "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولـئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الإسراء /36).
واذا كان الطب يهتم بسلامة العين مادياً، فان الشريعة السمحاء تهتم أيما اهتمام بالعين معنوياً. و ربما هنالك البعض ممن يحتجّ بأن أمر النظر ودوران العين هنا وهناك أمر بديهي أو عفوي، أو (ما ذنب الانسان البصير اذا صادفته صورة معينة، أو منظر معين...)، وغير ذلك من الاعذار التي تنتجها النفس الأمارة بالسوء ليسهل على الدماغ أخذ حريته في إصدار الايعازات المتكررة والمستمرة للعين للبحث عن هذه الصورة أو تلك، أو هذا المنظر أو ذاك، حتى وإن كلّف ذلك كثيراً من الجهد او الوقت.
ونحن نتفق مع هذا البعض في أن أمر النظر ليس له تبعات آنية وليس كاليد او اللسان الذين يتركان أثراً مباشراً على الطرف المقابل، لكن ليعلم الجميع إن خطورة النظرة الحرام تتجلى في الأمد البعيد، والسبب في ذلك هو صندوق القلب الذي يحتفظ بالصور الملتقطة بواسطة هذه العين الجميلة التي أنعم بها الله على الانسان، فاذا كانت الصور محرمة ومما نهت عنه الشريعة والآداب الاسلامية، فانها قطعاً ستلوث القلب، وبالاكثار من ذلك يؤدي الى اسوداد القلب، حتى يكون الانسان أشبه بالمدمن الذي تجري المخدرات في عروقه. من هنا نجد التحذير الشديد من لدن النبي الاكرم صلى الله عليه واله من النظر الحرام: (النظر سهم مسموم من سهام ابليس فمن تركها خوفاً من الله اعطاه الله ايماناً يجد حلاوته في قلبه).
من هنا جاء الدين الاسلامي ليحدد للعين المساحة النظيفة التي تجول فيها، ويجعلها تتنعم بالنظر الى ما هو مفيد وبناء بل ومطيّب للنفوس، لنقرأ هذا الحديث الجميل والأساس في الأسرة الايمانية عن رسول الله صلى الله عليه وآله: (النظر الى وجه الوالدين عبادة). إن تعالى يوصينا بغضّ البصر حفاظاً على سلامة قلوبنا ونفوسنا: "قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ" (النور/30)، واللافت أن القرآن الكريم ذكر مفردة (العين) في آيتين تكاد تكون متشابهتان، الأولى: "لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ" (الحجر /88)، والآية الثانية: "وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى" (طه /131).
وهنالك الكثير من الاحاديث عن المعصومين عن فتنة النظرة الحرام وعواقبها السيئة، عن الامام الباقر عليه السلام: (أول نظرة لك ، والثانية عليك وليست لك، والثالثة فيها الهلاك). وعن الامام الصادق عليه السلام: (النظرة بعد النظرة تزرع في القلب الشهوة وكفى بها لصاحبها فتنة).
وفي هذا المضمار يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي: (العين الخائنة التي توزع النظرات المريبة يميناً وشمالاً كالفم النهم الذي يبتلع ما يضر ولا ينفع شيئاً، فكما ان هذا الفم يملأ المعدة بالسموم، كذلك العين تملأ القلب بالوساوس؛ فاذا اردت قلباً نظيفاً فتجنب النظرات الخائنة، ومن اجل ذلك راقب ربك الذي هو خبير بما تصنع).
وكما هو واضح في سياق الاية المذكورة ان حفظ النظر من الخيانة يؤدي الى طهارة القلب من الادران ثم يؤدي الى حفظ الفرج من الحرام، ذلك أن النظرة الحرام بداية الزنا – والعياذ بالله- والذي يأتي عادة من باب النظر. يقول الامام الصادق عليه السلام: (... وكم من نظرة اورثت حسرة طويلة). والخطاب القراني بهذا الشأن لم يقتصر على المؤمنين، بل خاطب المؤمنات وأمرهن بنفس ما امر المؤمنين به من الغض، وعدم الانجرار وراء ما تشتهيه العين، قال تعالى في آية طويلة شرح فيها النواهي الاخلاقية للنساء: "وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا..." (النور /31).
الى جانب السلامة النفسية والقلبية للانسان التي تكون خاصة به، فان غضّ البصر وما يتبعه من سلامة للقلب، له أثره الكبير والبالغ على هوية الانسان المؤمن بين أوساط مجتمعه، فكثير النظر والتطلّع على النساء لن يكون موضع ثقة أحد، بل سيكون دائماً موضع شبهة في أي موقف او عمل يصدر منه. ولنا في قصة (صفوريا) بنت نبي الله شعيب، خير عبرة للرجال والنساء معاً، فقد جاء في (مالا يحضره الفقيه) عن الامام الكاظم في قوله تعالى: "قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ" (القصص /26)، قال: (... قال لها شعيب عليه السلام: يا بُنية؛ هذا قوي قد عرفتيه بدفع الصخرة، الأمين من أين عرفتيه؟ قالت: يا أبت اني مشيت قّدامه، فقال: امش من خلفي فان ضللت فارشديني الى الطريق فانا قوم لا ننظر في أدبار النساء...).
|
|