قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

علي (ع) والمرأة ... ثلاث صور مضيئة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *ايمان عبد الامير
في حياتنا اليوم تبدو الكرامة الانسانية أعزّ وأهم ما يشغل البال ويثير الاهتمام، والناس في ابكارهم نحو العمل كل يوم انما يبغون الحفاظ على هذه الكرامة لهم ولأهليهم، لأن في غير ذلك سيكونون معرضين للعوز والحاجة وهي مما تدفع الانسان لفقدان الكرامة، وعند هذه المرحلة لن يتحرج الانسان من عمل شيء او اتخاذ موقف او سلوك ما في مجتمعه. وهذا مصداق الحديث الشريف: (كاد الفقر ان يكون كفراً). ولكن من نعم الله تعالى علينا ان عرفنا على أهل بيت هم من "بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه"، وفيهم رجل قال عنه النبي الأكرم صلى الله عليه وآله: "ولولا اني اخشى ان تقول فيك ما قالت النصارى في عيسى بن مريم، لقلت فيك مقالة يأخذ الناس من تراب قدميك.....)، انه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، الذي نستذكر مولده المبارك في الثالث عشر من شهر رجب الأصبّ. ولنا في هذا الحيز ان نقتطف من روضته العطرة باقة من سيرته ما يعرفنا اكثر على هذه الشخصية العظيمة التي تعد بالحقيقة كالشمس في رابعة النهار لكنها محجوبة بغيوم سوداء داكنة أوجدتها ظروف طارئة وشاذة في السياسة والمجتمع والاقتصاد، ابعدتنا عن الاستفادة من هذا الشعاع الثر.
لسنا بحاجة الى حديث نُنشئه على صفحات الورق للتعريف بشخصية الامام علي عليه السلام، انما نفضل عرض صور ثلاث من فترة حكمه في الكوفة تضم ثلاث نساء لنرى كيف ان الامام علياً عليه السلام يعلمنا اهمية صون الكرامة الانسانية مهما كان عليه حال الطرف المقابل، بل ان الاهمية تزداد اذا كان امامنا انساناً في ازمة ومشكلة، فمواساته والتضامن معه تعزز الثقة بنفسه وتجعله يشعر بقيمة نفسه وقيمة الحياة التي يعيشها.
الصورة الاولى: الشاكيةعلى المسؤول..
جاء في كتاب (كشف الغمة) ص50 ان سودة بنت عمارة الهمدانية دخلت على معاوية يوماً في الشام بعد استشهاد أمير المؤمنين في محرابه، وقد شكته ما فعل بها وبقومها المدعو بسر بن أرطأة من جرائم وفظائع، ثم استشهدت بابيات:
صلّى الاله على روح تضمّنها
قبرٌ فاصبح فيه العدل مدفونا
قد حالف الحق لا يبغي به بدلاً
فصار بالحق والايمان مقرونا
فسأل معاوية عن هذا الذي تقصده، فقالت انه أمير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام، وروت له كيف انها جاءته شاكية من واليه على الاهواز بانه يعاملهم بالجور، وكان عليه السلام مشغولاً بصلاته فقطعها وأقبل اليها برحمة ورفق ورأفة – كما تروي سودة- وقال: ألك حاجة...؟! قالت نعم؛ واخبرته، فبكى عليه السلام وقال: اللهم اشهد عليّ وعليهم، أني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك. ثم أخرج قطعة جلد فكتب فيها: (بسم الله الرحمن الرحيم. "قد جاءتكم بينة من ربكم فاوفوا الكيل والميزان ولاتبخسوا الناس اشيائهم ولا تفسدوا في الارض بعد اصلاحها ذلكم خير لكم ان كنتم مؤمنين"، فاذا قرات كتابي هذا فاحتفظ بما في يدك من عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك ، والسلام).
تقول سودة: دفع الرقعة إليّ، فو الله ما ختمها بطين ولا خزمها، فجئت بالرقعة الى صاحبه فانصرف عنّا معزولاً.
في المصادر التاريخية لم يرد ان هذه المرأة المسلمة قد أخبرت الامام بجرم ارتكبه المسؤول او المحافظ في منطقتها او اختلس أموالاً او انتهك حرمات أحد، وفي العرف السياسي السائد تعالج المسألة بالمخاطبات الشفهية والتوصيات اللازمة و....، لكن الامام لم يتردد في قرار العزل حتى يعرف المسلمون انهم يعيشون في دولة اسلامية حقيقية وفي ظل نظام حكم يضمن لهم الكرامة والسعادة.
الصورة الثانية: أرملة حرب
ما اكثر الارامل والايتام في العراق وايضاً في سائر البلاد الاسلامية بسبب الحروب الطاحنة التي فرضت على المسلمين وخاضها ابطالها بالنيابة عن آخرين، فمن لهؤلاء يا ترى...؟! نحن نردد دائماً المقولة المأثورة: (الله كريم) و (الله أرحم الراحيم)، لكن اين الأمانة التي حملها الانسان والتي أبين وأشفقن منها الجبال والسموات؟
فيما هو في طريقه ذات يوم واذا إمرأة تحمل على كتفها قربة ماء، فهاله المنظر فحمل عنه القربة وفي الطريق بدأ يسألها عن أحوالها، وهي لا تعرف الامام عليه السلام، فسمع منها كلاماً قاسياً على الحاكم الاعلى والخليفة الشرعي والقانوني لكن حلم الامام وعطفه الذي لاينضب جعله يزداد تودداً لها. ومما قالت له: ان علي بن ابي طالب بعث زوجي الى بعض الثغور وقتل هناك، وترك عليّ صبياناً ايتاما، وليس عندي شيء ، فألجأتني الضرورة الى خدمة الناس. فانصرف عنها الامام ومرت عليه الليلة وهو مستغرق في التفكير والقلق، فلما اصبح حمل (زنبيلاً) فيه طعام، فأتى دار تلك المرأة وقرعه فقالت: من هذا...؟ قال: انا ذلك العبد الذي حمل عنك قربة الماء، فافتحي فان معي شيئاً للصبيان. فقالت رضي الله عنك وحكم بيني وبين علي بن أبي طالب!
دخل الامام أمير المؤمنين عليه السلام دار تلك المرأة وهي تحمل في صدرها الغضب والحنق على مسبب ترملها وتيتم اولادها، لكنه قال: اني احببت اكتساب الثواب، فاختاري بين ان تعجني وتخبزي وبين ان تعللي الصبيان لأخبر انا... فقالت انا بالخبز أبصر وعليه أقدر، ولكن شأنك والصبيان، فعللهم حتى أفرغ من الخبز. فعمدت الى الدقيق فعجنته وعمد الامام عليه السلام الى اللحم فطبخه وجعل يلقم الصبيان من اللحم والتمر وغيره، وكلما ناول الصبيان من ذلك قال: يابني اجعل علي بن ابي طالب في حلّ مما مرّ من امرك...
القصة معروفة للكثير من القراء، لكننا نسأل؛ لماذا يفعل الامام كل ذلك...؟ هل ارتكب خطأ بحق هذه المرأة وأولادها – حاشاه - ؟ انه حاكم أعلى وقائد للجيش، ومنتهى الامر ان زوج هذه المرأة واحد من عشرات الآلاف من الازواج الذين تركوا زوجاتهم لأداء الواجب الشرعي والدفاع عن البلاد ا لاسلامية واستشهد في هذا الطريق، او حتى ان كانت رواية اخرى تشير الى انه استشهد في احدى معارك الامام الثلاث، فالحق أوضح وأجلى، فقد واجه المسلمون المارقين والناكثين والقاسطين.
الدرس هنا؛ هو ان ترمل المرأة وتعرض الاطفال الى اليتم او ما نشهده اليوم من حالات حرمان وتخلف ودمار في اكثر من صعيد بسبب الحروب والظروف الطارئة، كل ذلك مسؤوليات وأن عظمت يجب ان يتحملها القائد والرئيس والمحافظ لا أن يتنصّل عنها، ويترك الناس يواجهون الظروف الصعبة وحدهم، لنفترض ان الامام عليه السلام كسب جميع حروبه مع اعدائه حتى مع معاوية وبقي سنيناً على قيد الحياة، فما الذي تكسبه تلك المرأة الارملة مع مئات الارامل في ذلك الوقت؟
الصورة الثالثة: منزلق الفاحشة
بالرغم من ان الجنس لم يكن يشكل معضلة ومشكلة في عهد الامام علي عليه السلام، بل في العهود الاسلامية الاولى، للمسافة القريبة التي كان عليه المجتمع من النظام الاجتماعي في الاسلام، لكن مع ذلك هنالك بعض الحالات الشاذة منها هذه القصة التي يرويها التاريخ لنا وهي تحمل اكثر من معنى ودلالة يجب ان نتخذها عبرةً في زمننا الحاضر، وتساعدنا الى التبصّر بالطريقة الصحيحة لمواجه مشكلة الجنس ونحلها بما يرضي الله ويقوّم أخلاق المجتمع.
جاءت امرأة متزوجة الى الامام أمير المؤمنين عليه السلام وصرّحت أمامه بانها ارتكبت الفاحشة، والمعروف من الناحية الشرعية إن إقامة الحد في هذه الحالة بحاجة الى اربعة شهود. فما هو موقوف الامام عليه السلام كزعيم دولة وحاكم أمام هكذا قضية؟ بل ما هو موقف مسؤول في محافظة او مدينة في وقتنا الحاضر وهو يواجه هكذا موقف؟
يروي التاريخ لنا ان المرأة عندما وقفت امام الامام طلبت منه ان يطهّرها! (فان عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لا ينقطع).
فسألها الامام اذا ما كانت ذات بعل (متزوجة) أم لا؟ فاجابت انها متزوجة وزوجها حاضر وليس بغائب. فقال لها الامام عليه السلام: انطلقي وضعي ما في بطنك ثم أتني أطهرك. فلما ذهبت عنه بعيداً قال: اللهم إنها شهادة.
وبعد فترة جاءت وقالت: قد وضعت طفلي فطهرني! فأعاد عليها السؤال الاول وأجابت بنفس الاجابة الاولى، وفي هذه المرة قال لها الامام: انطلقي فارضعيه حولين كاملين كما أمرك الله. ولما انصرفت عنه توجه الى السماء وقال: اللهم إنها شهادتان.
وبعد انقضاء الحولين – عامين- أتت المرأة لتطالب بتطهير نفسها فاعاد الامام عليه السلام نفس الاسئلة وسمع منه نفس الاجوبة، فقال عليه السلام: انطلقي فاكفليه حتى يعقل ان يأكل ويشرب ولا يتردّى من سطح ولا يتهور في بئر. فانصرفت وهي تبكي بينما الامام رفع رأسه الى السماء ويقول: اللهم إنها ثلاث شهادات. وفي الطريق رآها احد اصحاب الامام وقال لها: انا اكفل ابنك ان كان ذلك ما يريده أمير المؤمنين – وكان جاهلاً للتفاصيل- ولما عادت الى الامام مسرعة قالت له: ان عمرو بن حريث المخزومي كفل ابني، فقال ولمَ كفل ولدك؟! فقال لأني ارتكبت الفاحشة، وتكرر السؤال والجواب للمرة الرابعة، فرفع الامام رأسه نحو السماء وقال: اللهم إنه قد ثبت لك عليها اربع شهادات، وانك قد قلت لنبيك صلى الله عليه وآله: (يا محمد من عطّل حداً من حدودي فقد عاندني، وطلب بذلك مضادّتي).
عندها دعا امير المؤمنين عليه السلام الناس الى حضور إقامة الحد في ظهر الكوفة بعد صلاة الفجر، وأمرهم ان يتنكروا وان لايعرف أحدهم الاخر – أي ان يتلثموا- وكانت المفاجأة من الامام أن طلب من كل واحد من الحاضرين وكانوا حشداً كبيراً، ان يبقى للمشاركة باقامة الحد من ليس عليه من الله مثل ما لهذا المرأة من حد، فانسحب جميع الناس ولم يبق سوى الامام وأبنيه الحسن والحسين، فأقام هؤلاء الثلاثة الحد على المرأة دون غيرهم ثم انصرفوا الى دارهم.
هذا هو النظام الاسلامي الذي يقدمه لنا أمير المؤمنين فيما يتعلق بامرأة ارتكبت هكذا عمل شائن مخرب للبيوت، ثم ان الجنس في منطق الاسلام ليس بمشكلة انما حاجة يساء استخدامها وفهما، بل نشهد المحاولات المكثقة لتكريس هذا الفهم الخاطئ، وإن حصلت مشكلة في هذا المجال فالحل يكون بكل ترويّ واتزان بعيداً عن القرارات الارتجالية والانفعالية والعصبية. وهذه هي الكرامة التي تبحث عنها المرأة والفتاة في العالم الاسلامي. انه الستر والعطف، واكثر من ذلك فان أمير المؤمنين عليه السلام لا يعد المذنب في محيطه الاجتماعي قد وصل نهاية الطريق وعليه يعتزل المجتمع لانه منبوذ ومرفوض لفعلته، بل يبقى مسلماً وعليه الحقوق والواجبات مالم يكون محارباً ومعانداً للدين وتعاليم السماء.