متى يُفلح المؤمنون؟
|
* الشيخ حبيب الكاظمي
"قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ".
الآية تبدأ بـ "قد أفلح المؤمنون". والفلاح لم يخصص، إن كان للدنيا أو للآخرة. بل جاء كمعنى عام، ينطبق على الفلاح الدنيوي والأخروي، فالقرآن أعطى أول درس من دروس الإيمان، بأن من يريد السعادة المنشودة، والإطمئنان القلبي - تلك الضالة التي قد فقدها أهل الدنيا جميعاً، ما عدا المؤمنون- فإن هذه السعادة لايمكنها أن توجد، إلا في ضمن جو الإيمان، لأن السعادة هي حالة من حالات القلب كالإرتياح، أو الحزن، أو الإكتئاب، وما شابه ذلك، وإن الذي خلق القلب والنفس، هو الأدرى بما يدخل السرور والسعادة في هذه النفس.
فإذن، لا يمكن أن تتحقق السعادة والإطمئنان في القلب، إلا بمراجعة الوصفة التي جاءت من قِبل مقلِّب القلوب، بل خالق القلب، وعليه أن نمتع البدن، فأهل الدنيا أرادوا سعادة النفس، من خلال سعادة البدن، وبتعبير آخر: من خلال إعطاء البدن ما يشتهيه: كشهوتي البطن والفرج، فهاتان الشهوتان اللتان شغلتا أهل الدنيا برجالهم ونسائهم، وهنا تكمن المغالطة، من حيث أنه لا يوجد ارتباط بين عالم البدن، وعالم النفس، فأن تسعد البطن والفرج والعين والأنف والإذن، فما علاقته بالنفس؟، فإذا أكل زيد طعاماً، فهل يشبع عمرو؟، فالروح والبدن، كزيد وعمرو، فهذا يأكل، والآخر يبقى جائعاً، فلقد حصل خلطاً عند أهل الدنيا، فخلطوا ما بين الروح والبدن، فتوغلوا في إعطاء المادة والبدن ما يشتهيان، وبالتالي بقيت الروح دون غذاء، فلم يحققوا شيئاً من مقاصدهم.
"الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ"
هناك فروع متعددة للدين، والصلاة أحد فروع الدين، التي لها أحكامها، وإقامة الصلاة هو مقدم على الخشوع، ولكن القرآن الكريم ذكر الأعلى، ليكون الأدنى في ضمنه، فالإنسان الخاشع بلا شك مقيم للصلاة في أول الوقت ومحافظ عليها، ولهذا في ختام هذه السلسلة من الآيات، جاءت هذه الآية الكريمة: "وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ"، فالإنسان الخاشع يستلذ في الصلاة، والحديث مع رب العالمين، وكأن الله عز وجل أغلق الأبواب على محبيه، فيتجلى لهم بين فترة وأخرى، وأما في أوقات الصلاة، فبابه يكون مفتوحا للجميع، بمثابة عاشق بباب من يهواه، وهو ينتظر، فيُفتح الباب فتحاً رسمياً في اليوم خمس مرات، ولهذا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كان يشتاق الى أول الصلاة، وكان يقول: (أرحنا يا بلال)، وكان الأئمة المعصومون تنخطف ألوانهم منذ لحظات الوضوء وقبل الصلاة، كل ذلك لأن الصلاة عبارة عن إذن بلقاء للمطيع والعاصي على حدٍ سواء، ولهذا فإن الإنسان العاصي، عندما يدخل الصلاة، ويهتم بأن يخشع في صلاته، بمجاهدات وبمحاولات يصل إلى هذه النقطة من الخشوع، فإذن، إن من صفات المؤمن الخشوع.
يقول تعالى في آية: "الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ"، وفي آية أخرى: "إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء"، فالذي لا يخشى ولا يخشع فهو إنسان لا يعرف الله وليس له علم بالله عز وجل، وهناك ما يسمى بالإيمان التعبدي، وكما يقول بعض علماء الأخلاق: (إن العلم إذا لم يتحول إلى سكون واطمئنان في القلب، لا يسمى إيماناً)، فالإيمان إيمانٌ إذا أوجب الإطمئنان في القلب، فالناس قد عرفوا الله عزّ وجل ولهذا أسلموا، والإسلام هو العلم، والإقرار بالله عز وجل، أما الإيمان فهو مرحلة أرقى من مرحلة العلم، فالقلب الذي لا يفوّض أمره إلى الله تعالى ويخشى انقطاع الرزق، والإنسان الذي يخاف المخلوق، لا يعد مؤمناً بالله عز وجل، لأنه لم يحقق السكينة والإطمئنان في حركة حياته.
"وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ"
فقهياً لايمكن القول بأن كل صور اللغو محرمة، فمثلاً: إذا كان الإنسان يقوم بلعبة غير قمارية، ومن دون مرابحة، فمن الناحية الفقهية تكون هذه اللعبة جائزة، ولكن المؤمن يعرض عن هذا اللغو، فالقرآن الكريم آياته كالنجوم في مواقعها، فلم يقل الله تعالى: الذين هم للغو تاركون، بل قال: "معرضون"، والإنسان المعرض هو الذي يعتقد بتفاهة الشيء، فهناك فرق بين أن يترك الشيء، وهو متعلق به، خوفاً أو طمعاً أو حياء من الناس، ولهذا في الشريعة أن أكل الخبائث غير جائز، فأكل الحشرات والبهائم التي لايمكن أن تؤكل والقاذورات والحشائش، فالشارع المقدس في القرآن الكريم، لم يذكر آية واحدة في الزجر عن أكل الحشرات المضرة، أو التي لا يمكن أن تؤكل، لأن الناس بطبيعتها معرضة عن أكل الخبائث، والمؤمن يصل إلى درجة، يكون انصرافه عن اللغو، بحيث لا يحتاج إلى معاناة، ولكن اشتغاله باللغو إذا أجبر على ذلك، فهو يحتاج إلى معاناة. مثلاً أن يشاهد برنامجا غير هادف، مراعاة إلى جو معين أو أي هدف كان، فإنه يعيش حالة من الغليان الداخلي، لأنه ينظر ويشتغل بشيء هو معرض عنه، ولهذا فإن الإنسان المحب للغو ويحب ما لا نفع فيه ولكن يمنع نفسه منعاً ويكبح جماحها كبحاً، فإن هذا الإنسان ليس مؤمناً من الناحية الواقعية، لأنه غير معرض عن اللغو، واللغو مقولة نسبية، فقد يكون لإنسان برنامج معين في التلفاز في مجال تخصصه، ويوجد إنسان آخر بالنسبة إليه أن هذا البرنامج لا يعنيه، فهذا البرنامج يعتبر للأول هدف، وبالنسبة للآخر فهو لغو، فعلى المؤمن أن ينظر إلى دائرة اللغو في حياته، فإذا كان هو غير معني بهذا الأمر، فهو إنسان مشتغل باللغو، وقد قيل: بأن كل نظرة لا عبرة فيها، فهو لغو أو سهو، وكذلك إن كل قول ليس فيه حكمة، فهو لغو أو سهو.
وتتسلسل الآيات الى أن تقول: "وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ"، فكما قد يكون المبلغ المالي أمانة، فكذلك أن الزوجة تعد أمانة، والأسرة والذرية، وكل هذه الأمانات بأيدي المؤمن، فالمؤمن الذي يخشع في صلاته، ويترك اللغو، ويحافظ على فرجه، وإلى آخره، ولكنه لا يراعي أمانته، قال النبي الاكرم صلى الله عليه وآله: (ملعونٌ ملعونٌ، من ضيّع من يعول)، فالإنسان إن كان يعول إنسانا آخر، أو مجموعة من البشر، وهذا الإنسان قد ضيّعهم، فهو ملعون: أي مطرود من رحمة الله عز وجل.
"أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ"
إن أهل الجنة يدخلونها وهي بكر، "فيهن قاصرات الطرف لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان"، فالحور كذلك، والغلمان لم يخدموا أحداً غير نساء و رجال الجنة، والقصور غير مسكونة، تسكن لأول مرة، فإذن، لماذا قال: "الوارثون"؟، فالإرث هو عبارة عن الإستفادة من متاع الغير، وقد قال العلماء قولاً جميلاً في هذا الخصوص: إن الإرث هو عبارة عن المال الذي كان في معرض الغير، ثم انتقل اليك، فمثلاً هذا المال كان لأبيك يستمتع به، ومن ثم انتقل إليك، أو أن هذا المال كان بالإمكان أن ينتقل للآخرين، ولكنك أنت أولى بهذا المال من غيرك، فالمقصود بأن الجنة كانت بمعرض الجميع، والكل بإمكانه أن يدخل الجنة، ولكن يوجد من قصّر فدخل نار جهنم، ولكن المؤمن نال هذه الجنة، التي كان من الممكن أن يصل إليها الآخرون، ففي مضامين بعض الروايات أن الإنسان إذا دخل النار يقال: هذا موقعك في الجنة، أي هذا مكانك في الجنة التي قد حُرمت منها، ومن الممكن كذلك، أن الإنسان في يوم القيامة -حتى يعلم قدر الجنة- يرى موقعه من النار ويقال: هذا موقعك في النار، ولكن الله عز وجل خلّصك منها، ليبالغ في الدعاء والشكر، عندما يرى موقعه في الجنة، وقد ورد في الروايات - ما مضمونها- : (أن لكل إنسان منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، فإذا مات ودخل النار، وُرثَ أهل الجنة منزله)، أي يحتلون ذلك المكان، الذي كان ينبغي أن يسكن فيه.
|
|