الطُّوسي شيخ الطائفة
حياته – آثاره
|
محمد طاهر محمد
يعد الشيخ ابو جعفر محمد بن الحسن الملقب بـ (الطوسي) من أجلّ علماء الامامية على مدى تاريخها الطويل والحافل بكبار العلماء والفقهاء، وتدلنا مؤلفاته على علمية واسعة وثقافة موسوعية شاملة، فلم يترك باباً من أبواب العلم إلا وطرقه وحاز فيه على قصب السبق، فقد ألّف الطوسي في التفسير والحديث والفقه والاصول والعقائد وعلم الكلام والتراجم والسير والعبادات والفقه المقارن والادعية وغيرها وقد امتاز شيخنا بسعة الأطلاع في كل باب ألف فيه فكان ذا أفق واسع وعقلية متفتحة على آفاق العلم المتباينة ومصادره المتنوعة.
ولد الشيخ الطوسي في شهر رمضان عام 385 هـ في مدينة طوس بخراسان التي اشتهرت بكونها مركزاً علمياً مرموقاً ففيها قبر الإمام علي بن موسى الرضا (ع) وقد تخرج فيها من أئمة العلم والفقه (ما لا يسعهم الحصر) كما يقول ياقوت الحموي في معجم البلدان ج4 ص49-50 وقد ذكر ياقوت منهم: ابا حامد الغزالي وأخاه أبا الفتوح تميم بن محمد والوزير نظام الملك الحسن بن علي، ومن غريب الصدف أن اثنين من أبرز العلماء الذين انجبتهم طوس، قد شاركا شيخنا الطوسي في إسمه ولقبه وهما محمد بن الحسن الطوسي والد نصير الدين الفيلسوف المعروف بـ(الخواجة) والمتوفي سنة 672 هـ والمدفون بجوار الإمام موسى بن جعفر الكاظم (ع) ومحمد بن الحسن الطوسي الخراساني الفقيه صاحب كتاب (الفيروزجة الطوسية في شرح الدورة الغروية) في فروع الفقه.
نشأ الشيخ الطوسي في مسقط رأسه طوس ردحاً من شبابه وتلقى دروسه الأولى بها، ولم تذكر المصادر شيئاً عن دراسته المبكرة ونوعها غلا أن الذي لا شك فيه أنه درس أوليات العلوم النقلية والعقلية التي كانت دراستها لازمة لمن هو في مثل مرحلته وسنه، ولم يطل به المقام في طوس فقد كان توّاقاً لطلب العلم أينما حل فهاجر وهو في الثالثة والعشرين من عمره الى بغداد التي كانت حاضرة العالم الاسلامي حيث مدراس العلم ومجالسه تموج بالعلماء والفقهاء والمتعلمين وتغصّ بالوافدين من كل حدب وصوب فوجد فيها شيخنا ما يطمع إليه.
وصل الطوسي الى بغداد عام 408 هـ وما إن استقر به المقام بها حتى بدأ ينهل من علوم مجالسها وكانت فاتحة تعلمه في عاصمة العلم آنذلك على يد الشيخ ابي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بـ(المفيد) والمعروف بـ(ابن المعلم) فقيه الإمامية واستاذهم ورئيسهم في ذلك الوقت والذي كان مجلسه في الفقه والكلام وغيرهما يحضره كثير من أهل العلم كما كانت له مناظرات في علم الكلام مع أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار المعتزلي حفظتها المصادر الاسلامية.
كان حضور شيخنا الطوسي لمجلس استاذه المفيد ممهداً لتبحره في العلوم وقد لازم الطوسي الشيخ المفيد خمس سنوات أي من عام 408 هـ وهي السنة التي ورد فيها الى بغداد حتى عام 413 هـ وهي السنة التي توفي فيها الشيخ المفيد ويصف شيخنا الطوسي شيخه المفيد في كتابه الفهرست ص186-187 بأنه (مقدم في العلم وصناعة الكلام) وإنه (فقيه متقدم، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، له مؤلفات كثيرة) ثم يذكر بعضاًَ من مؤلفاته.
ويتبين أثر دراسة الطوسي على يد المفيد وما تلقاه عنه من العلم فيما رواه عنه في كتابه (الاستبصار فيما اختلف من الاخبار).
انتقل شيخنا الطوسي الى مجلس علي بن الحسين الموسوي المعروف بـ(الشريف المرتضى) الذي آلت إليه رئاسة الإمامية بعد وفاة الشيخ المفيد فكانت داره في الكرخ يؤمها الكثيرمن طلبة العلم وكان شيخنا من ابرز هؤلاء الطلبة وقد لازم الطوسي استاذه المرتضى مدة طويلة بلغت ثلاثة وعشرين عاماً حيث لقي منه رعاية واهتماماً بالغين اذ جعل له داراً في الكرخ وأجرى له عطاءً شهرياً مقداره اثنا عشر ديناراً، وقد نهل شيخنا في مجلس المرتضى علوما مختلفة حيث كان مجلس المرتضى يحتوي على دراسات متنوعة في الفقه والاصول والتفسير والكلام والعقائد واللغة وغيرها وكان للسيد المرتضى في علم التفسير منهج مميز ودراسات خاصة تجلت في كتابه (الامالي) ويشير شيخنا الطوسي الى فضل استاذه المرتضى عليه في مؤلفاته فقد أشاد في ترجمته في الفهرست ص125-126 بعلمه وتنوع ثقافاته واثره العلمي عليه فقال: (علم الهدى، الأجلّ المرتضى، رضي الله عنه، متوحّد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدم في العلوم مثل علم الكلام والفقه واصول الفقه والادب والنحو والشعر واللغة وغير ذلك) كما أشار إلى آرائه في التفسير في مواضع كثيرة في تفسيره (التبيان).
واضافة الى هذين العَلَمين الكبيرين الذين تتلمذ عليهما شيخنا الطوسي فقد اخذ العلم كذلك على يد علماء كبار آخرين منهم: ابو عبد الله احمد بن عبد الواحد البزار المعروف بـ (ابن عبدون) و (ابن الحاشر) الذي وصفه الطوسي بأنه كثير السماع والرواية وبين أنه أجاز له بجميع ما رواه وقد روى عنه في كتابيه (الامالي) و (الاستبصار) ومنهم ابو عبد الله الحسبن بن عبد الله الغضائري الذي ذكره في (الفهرست) و (الرجال) وروى عنه في (الامالي) كثيراً من الاخبار وقد وصفه بأنه كثير السماع عارف بالرجال له تصانيف ثم قال (سمعنا منه واجاز لنا بجميع رواياته) ومنهم ايضاً ابو الحسين علي بن أحمد بن ابي جيد القمي وقد ذكره الطوسي في مواضع عديدة من (الفهرست) مشيراً الى أنه روى عنه مصنفات بعض الإمامية كما روى عنه في (الاستبصار) عدة اخبار وهناك شيوخ كثيرون أخذ عنهم الطوسي وذكرهم في كتبه وروى عنهم في أماليه منهم ابو عبد الله الحسين بن ابراهيم القزويني وابو طالب بن عزور وابو القاسم علي ابن شبل الوكيل وغيرهم.
ولسنا بصدد حصرهم فهم كثيرون وإنما نحن بصدد الاشارة فقط الى ما يلقي الضوء على مصادر دراسته وثقافته الواسعة. فقد نهل الطوسي من معين العلم وجنى ثماره على يد أساطين العلماء وهذا ما جعله موسوعياً ف يتآليفه، كثير العناية بالموازنات في كتبه، مجدداً في اسلوبه الدراسي والعلمي تجديداً فاق من سبقه ومن لحقه، فقد بدأ بهذا الشيخ الرائد عصر العلم الجديد الذي اصبح الاصول فيه علما له دقته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصة، وتشعرنا مؤلفاته العلمية والفقهية بهذه الثقافة الواسعة فهي بحر زاخر يموج بمختلف العلوم فكانت ثقافته الواسعة في علم الكلام – وله فيه اكثر من مؤلف – هي التي حدت الخليفة القائم بأمر الله أن يمنحه منصباً علمياً ممتازاً هو كرسي علم الكلام وهو أرفع منصب في هذا العلم ولا يحظى به إلا من أوتي علماً جماً وملكة فائقة على الناظرة والحجاج.
انتقلت الرئاسة العلمية والاستاذية المطلقة الى شيخنا الطوسي بعد وفاة السيد المرتضى عام 436 هـ وصار الإمامية يرجعون اليه فكانت داره التي تقع في الكرخ يؤمها طلبة العلم من البلاد الاسلامية كافة وكان عصر الشيخ الطوسي يتسم بشيء غير قليل من حرية الفكر على الصعيد السياسي فلم يكن هناك حجر عقائدي على مدارس المسلمين المختلفة ومنهم الإمامية وساعد على ذلك وجود البويهيين في الحكم والذين كان لهم ميل ورغبة في تكريم وتشجيع العلماء والأدباء وقد حظي الطوسي لذلك بكرسي الكلام الذي كان يعد للمناظرة وقد كان أهلاً لذلك باعتبار أن هذا المنصب الذي يلتقي فيه كل طلاب المسلمين من غير انحياز طائفي، بلا ريب يثمر ثمراته في رواياته فينطلق من القيد الطائفي الى طلب العلم، ولن يكون مقيداً إلا بقيد الثقة والاطمئنان.
شرع شيخنا في التأليف في سن مبكرة عاملاً بمبدأ (صدقة العلم نشره) كما قال أمير المؤمنين (ع) فألف في الموضوعات العلمية كافة حتى تجاوزت مؤلفاته (الخمسين) مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة ذكر اكثرها في كتابه (الفهرست) ففي التفسير له ثلاثة آثار هي: (التبيان في تفسير القرآن) وهو من أهم كتب الطوسي وأشهرها واكثرها تميزاًَ، ألفه بنمط جديد ومنهج مبتكر لم يسبقه اليه احد إذ هو اول تفسير للإمامية يضم في ابواب متفردة مخلتف مباحث التفسير وعلوم القرآن كالقراءات وحجتها والمعاني والاعراب واللغة والنظم واسباب النزول وغيرها وقد اشار الى هذا التفسير الكثير من المؤلفين القدامى في تراجمهم كالسبكي والصفدي والعسقلاني والسيوطي وغيرهم ويقع هذا التفسير في عشرين مجلداً أما الأثران الآخران فهما (المسائل الرجبية في تفسير القرآن) و (المسائل الدمشقية في تفسير القرآن) وهما في تفسير آي من الذكر الحكيم أما في الحديث فلا أدل من كتابه (الاستبصار فيما اختلف من الاخبار) على علميته وتوسعه في العلم فهذا الكتاب هو احد ا لمصادر الاصلية الاربعة لدى علماء الإمامية والمعوّل عليها – بعد كتاب الله – في استنباط الاحكام الشرعية منذ عصر الطوسي وحتى يومنا هذا ويحتوي على خمسة آلاف وخمسمائة حديث، ومن مؤلفاته في الحديث ايضاً (تهذيب الاحكام) و(المجالس في الاخبار) وهو المعروف بالأمالي لأنه أملاه مرتباً في عدة مجالس في النجف الاشرف على تلامذته، أما في اصول الفقه فقد ألّف كتابه (العدة في اصول الفقه) الذي يعد لدى الإمامية من احسن المصادر الاصلية في هذا الفن عند القدماء، أفاض فيه القول في تتبع مباني الفقه بما لا مزيد عليه في ذلك العصر)، كما ألّف شيخنا في التراجم والسير ثلاثة كتب هي (الرجال) واسم الكتاب يدل على مضمونه وهو من أقدم وأشهر كتب الرجال عند الإمامية ويتضمن الرجال الذين رووا عن النبي (ص) والأئمة الاثني عشر (ع) ومن تأخر عنهم ويسمى هذا الكتاب ايضاً بـ(الابواب) بأنه مرتب على ابواب بعدد اصحاب النبي (ص) واصحاب كل واحد من الأئمة الطاهرين (ع) أما الكتاب الثاني فهو (اختيار الرجال) وهو تهذيب لكتاب (الرجال) للكشي ابي عمر ومحمد بن عمر بن عبد العزيز، وقد أملى هذا الكتاب على طلابه في مشهد الإمام علي (ع) في النجف الاشرف، أما الكتاب الثالث فهو (فهرست كتب الشيعة) وقد ذكر فيه من صنف من الإمامية وقد رتبهم على حروف المعجم ليسهل الرجوع اليهم، ويعد هذا الكتاب من آثاره الثمينة وقد اعتمد عليه الإمامية منذ عصره وحتى اليوم، يقول عنه الاستاذ محمد ابو زهرة في كتابه (الإمام الصادق) ص458 إنه (سد فراغاً في ذلك المذهب ما كان يمكن لغير الطوسي أن يسده)، وله ايضاً في الرجال كتاب (اخبار المختار) و (مقتل الحسين عليه السلام)، أما في علم الكلام فله أربعة كتب هي (رياض العقول) و (المسائل في الفرق بين النبي والإمام) و(الكافي في الكلام) و (مقدمة في علم الكلام) وقد شرح هذه المقدمة قطب الدين الرواندي وعزيز الله الأردبيلي أما في الفقه فله (الايجاز في الفرائض) و (المبسوط في الفقه) وهو كتاب عظيم وأثر جليل يشتمل على ثمانين باباً في فروع الفقه كلها ولذلك وصف بأنه (لم يصنف مثله) ويعد من أجلّ كتبه الفقهية و (النهاية في مجرد الفقه والفتاوي) وهو من (اعظم آثاره وأجلّ كتب الفقه ومتون الاخبار) كما يقول الشيخ آغا بزرك الطهراني حيث كان عليه مدار الدراسات الفقهية عند الإمامية منذ عصر مؤلفه.
ومن مؤلفات شيخنا الطوسي في الفقه المقارن كتاب مهم هو (مسائل الخلاف مع الكل في الفقه) وقد ذكر فيه مسائل الخلاف في الفقه بين الإمامية وغيرهم من المذاهب الاسلامية، أما في العبادات فلشيخنا فيها كتابان هما (الاقتصاد فيما يجب على العباد) وقد بين فيه العبادات الشرعية و (الجمل والعفود في العبادات) كما ألف في العقائد خمسة كتب هي (اصول العقائد) و(تلخيص الشافي في الإمامة) و (شرح ما يتعلق بالاصول من جمل العلم والعمل) و(الغيبة) و (المفصح في الإمامة)، أما في الأدعية فيعد شيخنا الطوسي من اقدم المؤلفين في هذا الموضوع من الإمامية وغيرهم وقد اعتمد عليه كثير ممن جاؤوا بعده يقتبسون من مؤلفاته أو يختصرونها أو يجعلون لها ذيولاً وتتمات ونحو ذلك مما يدل على اتصالهم العلمي بها واعتمادهم عليها والكتب التي ألفها شيخنا الطوسي في هذا المجال إثنان هما: (مختصر المصباح في عمل السنة) و (مصباح المتهجد في عمل السنة) واضافة الى هذه المؤلفات فللطوسي عدة رسائل في الموضوعات التي ذكرناها آنفاً وقد اكتفينا بالاشارة الى كتبه الهامة كما أن هناك مؤلفات لم تنلها يد الفهرسة والطباعة مطمورة في زوايا النسيان.
كان شيخنا الطوسي علماً يهتدى به وقد اقتبس من أنواره وعلومه الكثير من طلبة العلم حتى قيل أن تلامذته ثلاثمائة تصدّر منهم أكثرمن ثلاثين شيخاً للتدريس والفتيا والتأليف واشهر تلاميذ الطوسي ابنه ابو علي الحسن بن محمد الطوسي الذي خلّف اباه بعد وفاته في الافتاء والتدريس حيث آلت إليه الرياسة العلمية، ومن تلاميذ شيخنا المعروفين بالتأليف: ابو بكر احمد بن الحسين النيسابوري وابو الخير بركة بن محمد بن بركة الاسدي وابو الصلاح الحلبي وكيل الطوسي في بلاد الشام وابو عبد الله محمد بن هبة الله الورّاق الطرابلسي والحسن بن الحسين بن بابويه بن المظفر الحمداني وناصر بن الرضا بن محمد العلوي الحسيني ولهؤلاء التلاميذ الذين ذكرناهم آثار متنوعة عديدة ومؤلفات قيمة في مختلف العلوم دلّت على أثر الطوسي العلمي فيهم وفضله عليهم وعلى الاجيال التي تلتهم فكلهم أخذ عن الشيخ الطوسي ونشره لذلك اطلقوا عليه لقب (شيخ الطائفة) و (الشيخ) بحيث صار علماً له بالاجماع فاذا أطلق أي منهما لم ينصرف الى غيره.
توفي شيخنا (رحمه الله) عام 460 هـ عن عمر يناهز الخامسة والسبعين حفلت بالعلم والدراسة والتأليف وقد دفن في داره التي صارت بعد ذلك بمسجد الطوسي وهو قريب من مرقد الإمام علي (ع) وسمي الباب الذي يؤدي اليه من جهة المرقد بـ(باب الطوسي) وهو معروف وبمرور الزمن غدا مسجد الطوسي مدرسة من مدارس العلم تعقد فيه الحلقات العلمية لكبار علماء الإمامية على مدى العصور.
|
|