الموسوعة العلمية الثائرة والتي هدت عرش الطغاة..
الامام الصادق (ع) .. ثورة علمية وثقافية ضد جبهة الفكر المتسورد
|
*ضياء باقر
يقول احد علماء التربية: تتمثل لي التربية بشجرة مثمرة بجانب جدول مياه جار، وما أصلها إلا حبة صغيرة أودع الخالق بها شكل هذه الشجرة وخواصها وأثمارها فلما غرست وتعهدها الزارع بما يساعد الطبيعة على عملها تظهر تلك الحبة في شكل نبات ثم تنمو وتترعرع حتى تكبر وتثمر، كذلك الطفل الذي أودع الله فيه تلك القوى التي تنمو وتظهر معه خلال حياته فتنمو اعضاؤه وملكاته تدريجياً حتى يصبح من مجموعها وحدة متكاملة لذا على المُربي أن يساعد الطفل على تنمية قواه البدنية منها والأدبية والعقلية على النمو الطبيعي.
وهذا النهج التربوي هو الذي أراده النبي (ص) والأئمة المعصومون (ع) أن يكرسوه في المجتمع الاسلامي، فقدموا الانموذج المتكامل والعملي وهم يطالبوننا أن نحذو حذوهم في تكرار نماذج راقية وعظيمة نُقشت أسماؤها على جبين التاريخ، وحتى لا يبقى هذا النهج وهذه السيرة مجرد أدبيات وافكار في بطون الكتب تفتقتد الى المصداقية.
الإمام الصادق (ع) والدور التربوي
لقد عرف الإمام الصادق (ع) بإستيعابه لكل علوم عصره الذي شهد لأول مرة ظهور علوم طبيعية وأخرى انسانية متعددة، في مقدمتها علم الكيمياء، الى جانب تطور العلوم الدينية من الفقه والحديث والتفسير واللغة العربية وغيرها، بيد أن مواطبة حركة الترجمة المتسارعة لهذه المسيرة العلمية في الوسط الاسلامي، جعل مهمة الإمام الصادق (ع) أكبر وأصعب، لأن هذه الترجمة حققت في بادئ أمرها أغراضاً مشبوهة مصدرها الدولة البيزنطينية – الصليبية، المتربصة دائماً بالدولة الاسلامية الكبرى، لذا يمكن القول إن من أكبر مساوئ الترجمة نقلها الفلسقة اليونانية القديمة الى البلاد الاسلامية، ولا مجال لنا هنا للخوض في هذه الموضوع، سوى الاشارة اليه، لمعرفة الخلفية الحقيقية لمن يسمونهم في التاريخ بـ (الزنادقة) الذين عاصرهم الإمام الصادق (عليه السلام)، وهم فئة مرقوا من حلقات الدروس الدينية التي انطلقت بداياتها مع تولي الإمام الصادق (عليه السلام) إمامة المسلمين، وحاولوا أن يرسموا لأنفسهم طرق وسبل يحسبون أنها صحيحة للوصول الى المعارف والعلوم، لكن لم تؤد بهم سوى الى الخسران، وهو ما أكده التاريخ وأثبتته الأيام.
يقول السيد أمير علي الهندي في كتاب تاريخ العرب: ونالت مدرسة الإمام الصادق (ع) شهرة عظيمة ففي تلك الفترة السعيدة كان هو زعيم الحركة الفكرية في ذلك العصر.
لذا وجه الامام الصادق (ع) كل طاقاته الذاتية نحو هدف كبير تحمله رسالة الإمامة التي ورثها عن رسالة النبوة والتي ماهي إلا لتحقيق السعادة الدنيوية والأخروية للإنسان والذي نزل من أجله كتاب الذكر الحكيم، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. فلقد تجلبب الإمامة التي انتهت إليه، فواصل ما كان ينهض به الأئمة الهداة من قبله، وهو تثقيف هذه الأمة بذخيرة من العلم تقوي البناء كي لا يتصدع أو ينهار، ومن أجل ذلك شحذ الإمام (ع) كل قواه الفكرية والروحية، في رزمة هدفها رفع مستوى الأمة وبناء الانسان والارتقاء به في جميع مجالات الحياة، فجلجل حرفه هاتفاًُ: (اطلبو العلم ولو بخوض المهج وشق اللجج واكتبوا فانكم لا تحفظون حتى تكتبوا).
الاسباب التي ساعدته في اتساع الرقعة العلمية:
لكل انجاز وخطوة تقدمية في الحياة، لابد من وجود عوامل مساعدة وظروف موضوعية تشكل الأرضية للانطلاق والتوسع والنمو، وهذا ما شهدناه في عهد الإمام الصادق (عليه السلام)، فقد تزامنت ظروف مع توليه (عليه السلام) مهام الولاية والإمامة، وقد استثمرها الإمام الصادق على أحسن وجه، فظهرت مدرسته المدوية في الآفاق وعبر الآجيال، بمنهجها و برجالها، من تلك العوامل نذكر ما يلي:
أولاً: ضعف السلطات الحاكمة..
ساعدت الاوضاع السياسية على اتساع مدرسة الامام الصادق (عليه السلام)، لأن عهده تزامن مع تداعي الدولة الأموية، وانشغالها بسدّ الثغرات والتصدعات الكبيرة التي سبقت الانهيار الكامل، وفي الوقت نفسه تزامن مع ظهور الدولة العباسية الطامحة نحو السلطة والهيمنة والتي هي الأخرى كانت منشغلة لكن بالتأسيس وتثبيت أركان حكمها، إذن، فلا وجود لعيون السلطة على حركة العلم في المجتمع، الامر الذي أتاح الفرصة لاتساع مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام) لاسيما في عدد التلاميذ وتنوع العلوم التي تدرسها، ثم بزغت مدرسته في أمكنة أخرى غير الحجاز لاسيما في العراق.
ثانياً: العمر المديد للأما الصادق (عليه السلام) ..
كما ساعده (ع) طول عمره مقارنة بمن سبقه من الأئمة الهداة (عليهم السلام)، فهو (شيخ الأئمة) كما وصفه أحد الكتّاب، حيث عاش زهاء خمس وستين سنة وهذا ما اعطاه فرصة أخرى لممارسة دوره التربوي ونشر تعاليم السماء. وقد وفّر الإمام الصادق (ع) منابع كثيرة للفكر وفرصاً نادرة في ثبات الخط العلمي والتربوي والنفسي.
ثالثاً: الاستفادة من النهج الرسالي الذي اختطه جده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) والتفكر فيه، وكيف أنه (عليه السلام) آثر مصلحة الاسلام على مصلحته الخاصة وهي أن يكون هو الخليفة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وكانت حقه حقاً لا جدال فيه، لكن الحفاظ على وحدة الصف الإسلامي هو ما كان المسلمون أحوج اليه، وهم يقضون المرحلة الأولى من قيام الدولة الاسلامية الكبرى والفتية، فضلاً عن تجربة الإمام الحسن (عليه السلام) الذي تنازل عن الولاية الظاهرية من أجل جمع المسلمين وحقن دمائهم، وكذلك من تجربة سيد الشهداء الذي كانت صرحته بحق بمنزلة الصعقة الكهربائية لإنقاذ القلب من التوقف والموت، والإمام السجاد (عليه السلام) الذي اتخذ سبيل الدعاء وبناء العلاقة مع السماء، كوسيلة لبناء الانسان واصلاح المجتمع، ثم الإمام الباقر (عليه السلام) الذي سعى الى بناء المؤسسة الفكرية الاسلامية الاولى.
فكل هذه الأدوار مهدت الطريق أمام الإمام الصادق (عليه السلام)، لذا فإن الفعل الإمامي عند الصادق (عليه السلام) لم يكن إلا وليد تراث وممارسات متعددة ومتنوعة قام بها الأئمة من قبله وقد تابعهم فيها على نفس النهج مع مراعاة الظروف الموضوعية والأسلوب الخاص بالمرحلة.
بصمات الإمام الصادق (ع) في الجانب الثقافي
إن مدرسة الإمام الصادق (عليه السلام)، ليست محدودة بما وصلنا من أحاديث و روايات وما حُفظ عنه من آثار في مختلف العلوم، بل هو أكبر من هذا سعة واكثر رحابة وأبعد أفقاً، فقدت اتصلت مدرسته رأساً كما تتصل السحابة بالبحر والضياء بالشمس والعطر بالورد وحيث كان يستوحي افكاره وعلومه ومعارفه من السماء، وقد اعترف المحب والمغبض بسعة آفاق الإمام العلمية، وهي المدرسة التي جعلت من اعدائه منابر المدح ومنصات الثناء حتى قال فيه ابو حنيفة: (ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد)، وقال الكاتب الانكليزي (هولميارد) في: (إن جابر هو تلميذ جعفر الصادق وصديقه وقد وجد في إمامه الفذ سنداً ومعيناً وراشداً أميناً وموجهاً لا يستغنى عنه، وقد سعى جابر أن يحرر الكيمياء بإرشاد استاذه، من أساطير الأولين التي علقت بها من الاسكندرية فنجح في هذا السبيل الى حد بعيد من أجل ذلك يجب أن يقرن اسم جابر مع اساطين هذا الفن في العالم أمثال (بويله) و (فوازيه) وغيرهما من الأعلام).
مواجهته (ع) للزنادقة والملحدين
حاولت شريحة من المسلمين في عهد الامام الصادق (عليه السلام)، جرّ الدين الاسلامي بعيداً عن قيمه السامية وتعاليمه الحكيمة، من خلال نشر أفكار وتصورات بل حتى أوهام والصاقها بهذا الدين الحنيف، ومن ثم رسم صورة أخرى عن الحضارة الإسلامية التي بدأت تبتسم في وجه الانسان يومذاك، بما قدمت للبشرية من نهج متكامل في الحياة، وقد انتشر الملحدون في معظم الامصار الاسلامية كالمدينة المنورة ومكة المكرمة والكوفة والبصرة ودمشق ومصر وغيرها من المناطق الاسلامية، وأرادوا نشر النظريات الإلحادية في أذهان الشباب التي لم تكن قد مُلئت بالفكر الصحيح بعد؛ فكان من الممكن أن يتبخر الفكر الاسلامي الأصيل في أقل من عشرين عاماً في ظل أجواء مساعدة وفرتها السلطات الحاكمة التي كانت المشجع والمروج الأول للأفكار والنظريات الفلسفية الهدامة.
هنا رأى الإمام الصادق (ع) إن دوره و واجبه لا يتمثل في القيام بحركة عسكرية مسلحة ضد الدولة الأموية، من باب استغلال الفرصة والسيطرة على مقاليد الحكم، وإنما تعبئة القوى على جبهة الفكر والثقافة لمواجهة الملحدين والزنادقة لكي لا يقفد المجتمع الاسلامي روحه الدينية ويسقط صريعاً بسبب فيروس الأفكار الخاطئة، من هنا كان مشروع الإمام الصادق (ع) لتربية الأفراد الطليعيين من اصحابه من الذي حظوا بشرف التصدي لهذه الأفكار وكانوا يرجعون للإمام (ع) عندما تعييهم الحيلة والذهن أمام أولئك الزنادقة والمجادلين، وهكذا كانت ثورة الإمام (ع) الثقافية العارمة التي خاضت معركة الدفاع عن الاسلام في وقت تآمرت عليه كل قوى الإلحاد والضلال وجندت كل طاقاتها لإعادة الرجعية المادية التي نسفها الاسلام منذ بزوغ فجر الدعوة وعلى يد الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله).
|
|