من الذي لديه علم الكتاب؟
|
*نجاح سالم
عندما نقرأ كتب التفسير لدى الفرق الإسلامية نفهم حقاً لماذا حرم رسول الله (صلى اله عليه وآله وسلم) التفسير بالرأي، ذلك أن التفسير بالرأي يحرف مفاهيم ومعاني القرآن الكريم بنفس مستوى تحريف القرآن نفسه، وعندما يفسر المفسرون القرآن الكريم بآرائهم فأنهم يفرضون آراؤهم الخاصة على حقائق القرآن فيشوهونها ويعطونها صورة غير التي نزلت بها، وفي هذا تحريف لمفاهيم القرآن وقيمه وهو لايقل خطورة عن تحريف القرآن نفسه.
لكن كيف يحدث ذلك؟ وهل من الممكن أن تحرف مفاهيم القرآن الكريم بهذا الشكل الذي قلناه؟
لدينا هنا آية إختلف حولها أرباب المذاهب إختلاف الشرق والغرب، حتى ليحسب القارئ أن هؤلاء أتوا من أديان شتى وليس من دين واحد، وهذه الآية تقول: "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد/ 43) وقد ذهبت مذاهب المفسرين إلى تفسير من عنده علم الكتاب إلى مذاهب شتى وإبتعدت آراءهم عن بعضها بعد المشرق والمغرب.
فمنهم من قال بأن الذي عنده علم الكتاب هو عبدالله بن سلام وهو رجل يهودي أسلم على يد رسول الله (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنورة إلا إن آخرين ردوا ذلك بأن السورة مكية ولايصح أن يكون عبدالله بن سلام الذي أسلم من بعد نزولها وقد جاء في تفسير إبن عجينة وغيره كثير عن الآية، (.. من عنده علم الكتاب) الأول؛ العلم الحقيقي، كعبدالله بن سلام، ومن اسلم من اليهود والنصارى الذين علموا صفته (صلى الله عليه وآله وسلم)، من التوراة والانجيل، وعلماء المؤمنين الذين عندهم علم القرآن وما احتوى عليه من النظم المعجزة والعلوم الغيبية الدالة على نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم). (البحر المريد، ج3، ص181), وهناك تفاسير كثيرة من الفرق الإسلامية أخذت بهذا الراي ونقلوه عن مجاهد، وهو رأي ضعيف لايصمد أمام حقائق العقل فما بالك بحقائق القرآن، فإذا قيل أن الشخص المقصود في هذه الآية هو عبدالله بن سلام فقد أثبتوا له خصيصة لايملكها مسلم غيره، لأن الذي لديه علم الكتاب هو يملك من العلم مالايقدر عليه أحد من العالمين سوى أن يكون نبياً أو وصي نبي بل أرفع درجة حتى من الأوصياء، ذلك أن وصي سليمان عليه السلام تمكن من الإتيان بعرش بلقيس بطرفة عين بفضل ما كان يملكه من العلم، وهو جزء من الكتاب وليس الكتاب كله، وسندع إبن عجيبة نفسه يتحدث عن آصف بن برخيا وفي تفسير هذه الآيات: "قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ* قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ" (النمل،38-40) وقد جاء في البحر المديد لابن عجيبة في تفسير هذه الآيات.. "قال عفريت من الجن".. وهو المارد الخبيث واسمه (ذكوان) أو (صخر): "أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك" أي: من مجلسك إلى الحكومة، وكان يجلس إلى تسع النهار وقيل إلى نصفه "وإني عليه لقوىٌ أمين"، أي قادر على حمله واحضاره بما هو عليه، لا أغير منه شيئاً ولا أبدله، فقال سليمان عليه السلام أريد أعجل من هذا، (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ) قيل هو: آصف بن برخيا وزير النبي سليمان عليه السلام وكان عنده اسم الله الأعظم، الذي إذا سئل به أجاب قيل هو: يا حي يا قيوم، أو: يا ذالجلال والإكرام، أو يا إلهنا وإله كل شيء، إلهاً واحدا لا إله إلا أنت وليس الشأن معرفة الإسم إنما الشأن أن يكون عين الإسم أي: كيف مسمى الإسم حتى يكون أمره بأمرالله وقيل: هو الخضر، أو جبرائيل أو ملك بيده كتاب المقادير، أرسل تعالى عند قول العفريت والأول أشهر قال: (أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك) أي ترسل طرفك إلى شيء فقبل أن ترده، تبصر العرش بين يديك.
روي: أن آصف قال لسليمان: مدّ عينيك حتى ينتهي طرفك، فمدّ عينيه، فنظر نحو اليمين فدعا آصف، ففار العرش في مكانه ثم نبع عند مجلس سليمان، بقدرة الله تعالى قبل أن يرجع إليه طرفه. (البحر المديد، ج4، ص382.
هذا ما أورده إبن عجيبة في تفسيره بشأن أحوال آصف بن برخيا وصي سليمان عليه السلام ووزيره، وقد انبهر بفعله إلى حد التصور بأن ما قام به قد يكون عمل جبرائيل عليه السلام أو الخضر عليه السلام أو ملك مقرب من الله عزوجل.
إذن.. هذا الذي لديه علم من الكتاب إستطاع أن يفعل ذلك، فمن يملك علم الكتاب ماذا يستطيع أن يفعل؟ وهل من المعقول أن يكون عبدالله بن سلام؟
الذي لديه علم الكتاب يستطيع أن يفعل أي شيء من الغيبيات، لأنه يملك العلم الكامل ذلك أن الله سبحانه وتعالى تحدث في مواضع كثيرة عن علم الكتاب ومافيه من الغيبيات كتلك الآية العظيمة "وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" (الأنعام/ 59).
فالذي لديه علم الكتاب يملك أيضاً علم الغيب بشهادة هذه الآية حيث أن علم الكتاب يشتمل على ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة ولاحبة ولارطب ولايابس هي موجودة في الكتاب، فمن يملك علم الكتاب يملك كل هذا.
وبالطبع هنا يأتي سؤال هام: هل الكتاب هو القرآن الكريم؟ فإذا قلنا بأنه القرآن الكريم فإن القرآن لايظهر منه ما ذكره الله في الكتاب من وجود كل شيء فيه من الرطب واليابس والحبة في ظلمات الأرض. إذن، فما هو الكتاب؟
إنه القرآن الكريم: ظاهره وباطنه، فأما الظاهر فنحن الذي نراه وأما باطنه فهي اسراره العميقة التي لايصل إليها إلا نبي أو وصي، وفي هذا المعنى يشتمل القرآن الكريم على كل صغيرة وكبيرة من أمور الكون، لكننا بحاجة إلى مفاتيح لفتح تلك الأسرار وتلك العلوم ونحن لانملكها، وان واحدة من تلك المفاتيح وتلك الأسرار هي الأحرف المقطعة التي تأتي في مقدمة السور فلا أحد من المفسرين فسرّ معانيها الحقيقية.
إذن، من يقول بأن الذي لديه علم الكتاب هو عبدالله بن سلام هو في الواقع ينسف معتقده ومذهبه لأن الذي لديه علم الكتاب لابد أن يكون نبياً او وصي نبي، وحسب إداعاء البعض اذا كان عبدالله بن سلام هو المقصود، فلابد أن خليفة رسول الله (ص)! ذلك أنه الأولى برسول الله من ناحية الشهادة، وهو الأكثر علماً بين المسلمين/ مثلما ثبت ذلك من علمه للكتاب، لكن هذا الأمر لايستوي مع عبدالله بن سلام لمعارضة التاريخ حيث أنه أسلم بعد نزول الآية، وكذا لمعارضة العلم حيث لم يثبت لعبدالله بن سلام أنه كان لديه من هذا العلم شيئاً، بل هذا المقام هو مقام أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) الذي كان أعلم المسلمين بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله) بشهادة جميع الصحابة الموافقين والمعارضين، فالذي كان لديه علم الكتاب هو علي بن أبي طالب (صلوات الله عليه) وليس أحد غيره!
|
|