المجتمع العراقي .. بين ثقافتي "التسامح والتوافق" و"التحامل والتباعد"
|
جواد كاظم الخالصي
ثقافة التحامل هي عكس ثقافة التسامح والتباعد هي عكس التوافق، وقد يقول قائل ربما لا توجد ثقافات كهذه وسط مجتمعنا العراقي وإنما دخيلة عليه نتيجة الظروف التي مر بها العراق من حروب وقساوة الأنظمة الحاكمة وفعل الإرهاب الذي نال حظه الوافر من هذا المجتمع المتعب أصلا نتيجة مغامرات النظام البعثي السابق والذي رسخ في مواطن كثيرة من هذا المجتمع ثقافة الديكتاتورية.
ما طرحته أعلاه أردت به منعطفا مهما على مجتمعنا العراقي هذا المجتمع الذي أبتلي بالكثير من النكبات والأزمات التي تعثر بها على مرور الزمن حيث عاش المواطن العراقي حالة من الضياع والبحث عن الحقيقة وسط كل الذين حكموه خلال العقود الماضية وقد كانت من أصعب المراحل التي مر بها المجتمع العراقي هي مرحلة حكومة حزب البعث التي طالت الكثير من عادات وتقاليد المجتمع العراقي مما حوّل بعض المفاهيم المجتمعية عن واقعها الصحيح وزرع في نفوس البعض الكثير من الريبة وعند البعض الكثير من الحقد والكراهية ورسّخ روح التناحر بين فئات المجتمع المختلفة وما أن سقط النظام السابق حتى دخل العراق في معترك آخر حيث مظاهر الإرهاب والقتل والتنازع الطائفي والسياسي والحزبي والقومي والديني، كلها تكالبت دفعة واحدة مما أثقل كاهل المواطن العراقي .. مع أن الغريزة الإنسانية تعطينا الأمل بالاستمرار .. ولكننا يجب أن نستمر ونتواصل كي نحصل على مجتمع متسامح ومتفق على سبل العيش السليم خصوصا ونحن نعيش اليوم حالة الحرية والديمقراطية .. حيث الأجنبي يذهب والدخيل على ثقافتنا أيضا يذهب، وجميع أصحاب الأجندات التي تعتمد الإرهاب تذهب وتزول، وهي مسألة وقت، ولكن الذي لا يذهب هو ابن وطني وابن مدينتي وابن عشيرتي وهو في النهاية ابن العراق، ولا يمكن لهذه التربة أن تتفكك وتذهب بعيدا عن بعضها البعض ..
إن غياب العامل الثقافي السليم هو الأساس الذي ينطلق منه مبدأ التناحر لأن الوعي الإنساني يدخل في مرحلة من الغيبوبة التي تجعل الإنسان قاصرا عن أداء مهامه الاجتماعية، ومثال ذلك ما يحصل مع الإنسان الذي يمر بحالة عصبية جدا حيث يفقد توازنه العقلي فيها حتى يعود إلى رشده، والمهام الاجتماعية هي نوع من التكامل الذي يمكن أن يبني على أساسه الإنسان مجتمعا صالحا ولذلك نجد أن الهوّة عندما تبدأ تكون صغيرة ويمكن معالجتها بحكمة العقل- فيما لو أردنا- ولكنها تكبر كلما فقدنا روح الثقافة والتواصل الاجتماعي، وعندما تكبر هذه الهوّة نصل الى مرحلة التناحر بين أفراد المجتمع لنصل إلى طريق مسدود وعندها يكون الأفق ضيّقا خارج إطار السيطرة حتى على العقل.. ومن هذا المنطلق أجد أن ثقافة التناحر (العدائية) والتباعد(التفكك) قد وجدت بدرجة ليست بقليلة، ضالتها في المجتمع العراقي ..، وليس بدعا من القول إن قلنا أنها كانت موجودة اصلا في زمن النظام السابق لكنها لم تظهر إلى السطح لأسباب عدة منها ماهو متعلق بسياسات نظام صدام وكيفية التعامل معها ..ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه بقوة عن هذه الثقافة المجتمعية التي فعلت فعلها في المجتمع وراح ضحيتها الآلاف من أبناء العراق بين من قتل ومن غُيّب ومن هُجّر ومن عاش فترة قاسية تحمل في طياتها الترقّب والخوف من المستقبل وما قد يحمله من خير وشر وهو الإحباط ذاته الذي يعاني منه المهزوم ذاتيا في مجتمعه وعلى يد أبناء بلدته ومحلته بل أحيانا على يد جيرانه وذلك نتيجة ترسيخ وتحويل الاختلاف ليكون أداة للقمع والقتل.
هذه التحولات في محاور المجتمع التي تأطّرت بفعل العوامل الطارئة على العراق والعراقيين وهو ما يمكن أن يحدث في أي مجتمع آخر لو وُجدت الآلية والأداة التي من خلالها يتم ترسيخ هذه الثقافة لتكون عاملا هداما في المجتمع وأداة طيّعة بيد القائمين عليه.وفي العراق الذي تكالبت عليه كل قوة الشرور النفسية التي تعتمد التجييش للقتل وترهيب الآخر والعزل الفكري أصبح ساحة خصبة لتنفيذ هذه الأفكار وإن كان لفترة محدودة وفي غياب الوعي وعامل المواجهة الثقافية لهكذا أفكار هدامة.. إذن هي حالة من التداخل الفكري التي نشأت في واقع المجتمع نتيجة تراكم ثقافة الديكتاتورية على مدى عقود من الزمن حيث لم يجد المواطن العراقي متنفّس حقيقي ليعبر فيه عن واقعه بحرية مطلقة وهذا يعد نوع من التحجيم على المرء وتصرفاته.هذا التراكم الذي يحصل عند الفرد يستصحب معه حالة من السلوك العدواني الذي يمكن أن يستخدمه الإنسان في حالة العدوانية أو حالة الهجوم والنزاعات التي تحصل بين الأقوام أو الأفراد ولذلك وجدنا تلك الخصلة قوية جدا في نوازع العديد من أبناء الشعب العراقي عندما مرّوا في مرحلة تصارع الأفكار فقد ظهرت عليهم كشكل من أشكال الانتقام وتجريد الآخر من كل شيء حتى من حياته ...
وعليه فلا بد للفرد العراقي أن يعود إلى لغة العقل ويتناسى حالة التنازع الذي تُؤدلج له بعض الاتجاهات السياسية لحسابات خاصة بها ،من إشغال الساحة بالكثير من المشاكل والمعوقات التي يمكن أن تغطي على الأفعال الخطأ لتلك الاتجاهات نفسها، وعندما يعود العراقي إلى نصوص العقل والحكمة فله القدرة على بسط الروح الإنسانية والتكامل الاجتماعي الذي يفضي لنا في النهاية عن مجتمع صحي وواعٍ. فيجب الانطلاق ..بالبناء الاجتماعي النقي غير الملوث والمنظّم بشكل صحيح، عن طريق مؤسسات المجتمع المختلفة، وكيان حكومي، قادر على وضع الأسس الصحيحة الصالحة لهذا المجتمع في أن يتعامل بالشكل الصحيح .. ولذلك لا بد للأمم أن تحكمها الحكومات الصالحة التي تحاول أن تضع الأسس الصالحة لبناء المجتمع ليكون منطلقا في التعايش الصحيح والسليم والابتعاد عن التمايز والتفضيل بين أبناء طبقات المجتمع كي يكون المجتمع صالحا وله قاعدة رصينة وقوية للتعامل بروح التسامح والتوافق الذي نريد لها أن تنهض وتتفاعل وسط مجتمعاتنا.وعليه فإننا اليوم وبعد هذا المخاض العسير والظروف الصعبة والقاسية التي مر بها المجتمع العراقي لا بد لنا من تثبيت قواعد عامة راسخة في التسامح والاتفاق فيما بيننا والاستماع إلى روح العقل والفكر الذي يهدي للتي هي أقوم كي نُنشئ جيلا قادرا على النهوض في المستقبل ليواكب باقي شعوب العالم في الحضارة والتقدم في مجالات العلوم والتكنولوجيا.
|
|