السيد ابراهيم العطار..
شاعر الألم والأمل
|
حسن محمد مراد
في هدأة الليل الطويل الذي يزحف بطيئاً.. ثقيلاً كان يناجي أحزانه بعد أن تساوى عنده الجديدان فأصبح لا يبالي بالصبح إذا أسفر فهو لا ينتفع بنور الشمس بعد أن كفّ بصره. كان الليل يحمل إليه بعض الراحة قبل أن يفيق على مأساة الدنيا كلها. صار شيخاً مريضاً عاجزاً أقعدته الشيخوخة وأنهكته العلة ولكنه مع كل هذه الآلام فقد كان مطمئن النفس هادئ الضمير اضفت عليه أعوامه السبعون وقاراً وجلالة فكان يصارع الداء وهو على يقين من حبه لأهل البيت (ع) وتمسكه بهم فيسترسل في نجوى هادئة:
أيبريني السقام وحسن ظني ببرئي فيكم لا بل يقيني
وأخشى أن أضام وفي يقيني وعلمي أن حبكم يقيني
وتتصاعد نفثاته من روحه المتأوهة:
على مَ صددتم عني وأنتم على الإحسان قد عودتموني
لقد عجزت أطبائي ومالي سواكم منقذ فاستنقذوني
وتغرورق عيناه بالدموع وهو يخاطب أئمته الطاهرين:
أبيت وللأسى نار بقلبي فهل من قائل يانار كوني
متى يجلى قذى عيني وتحظى عقيب الفحص بالفتح المبينِ
فدونكمو بني الزهراء نظماً يفوق قلائد الدر الثمينِ
أروم به جلاء العين منكم بعين عناية الله المعينِ
عليكم أشرف الصلوات ما أن شدت ورق على ورق الغصونِ
وما سارت مهجّنة إليكم وسار بذكركم حادي الضعونِ
كان هذا ديدنه كل ليلة وفي إحدى الليالي من شهر شعبان من عام 1230 للهجرة كان قد قضاها على نفس الوتيرة تطلع الليل إليه من بين النجوم تاركاً خلفه ما تبقى من ركام القتام و إذا هبط الفجر وتسللت خيوط الصبح أو كادت كان ذلك المريض في إحدى حجرات بيته في بغداد وقد أغمض عينيه كلياً متخطياً عتبة العالم الفاني وعلى شفتيه رجاء بأن ينعم بالنور الأبدي الذي ليس له انطفاء وهو شفاعة أهل البيت الأطهار كان ذلك هو إبراهيم العطار من أبرز علماء وأدباء بغداد في عصره والذي سخر قلبه وقلمه لخدمة الدين ونصرة مذهب أهل البيت (ع).
هو السيد ابراهيم بن محمد بن علي بن سيف الدين بن رضاء الدين بن سيف الدين بن رميثة بن رضاء الدين بن محمد علي بن عطيفة بن رضاء الدين بن علاء الدين بن مرتضى بن محمد بن حميضة بن أبي نمي محمد نجم الدين الشريف – من أمراء مكة – وينتهي نسبه الشريف الى الإمام الحسن (ع) من جهة الأب والى الإمام الحسين (ع) من جهة الأم ولد في بغداد ونشأ بها وتتلمذ على يد والده السيد محمد الذي كان من أعلام العلماء وكبار الأدباء فعني بتربيته وغذاه بعلمه فاقتفى سيرته وبقي ملازماً له حتى توفي ا لسيد محمد عام 1171 للهجرة فهاجر السيد ابراهيم الى النجف الاشفر مقتفياً أثر آبائه وسيرة أجداده في طلب العلم فحضر دروس أعلام عصره ولازم استاذه السيد محمد مهدي بحر العلوم واتصل بأعلم ذلك العصر من العلماء والأدباء أمثال النحوي والزنيني والفحّام والشيخ جعفر صاحب كتاب كشف الغطاء والشيخ محمد بن يوسف الجامعي فبزغ نجمه بينهم وأحتل مكانة متميزة في صفوفهم قال عنه الشيخ النقدي في الروض النضير ص346: (كان من ذوي الفضيلة والكمال أديباً جيد الشعر حي الشعور له مطارحات كثيرة مع أهل عصره وشعره الغالب عليه الحسن والرقة) كما قال بمثل ذلك السيد الأمين في أعيان الشيعة ج5 ص437 عرف عن شاعرنا بأنه واسع الإطلاع ووصفه معاصروه بأنه شاعر مجيد تجول في مختلف أغراض الشعر ونجد في شعره صوراً لا نجدها عند غيره حتى ذاع صيته وعرفه الأدباء شاعراً عقائدياً تفانى في الدفاع عن العقائد الحقة التي هي العامل المطلق الذي يسمو بالأخلاق وقد سخر قلمه للتعبير الصادق عن حبه وولائه لأهل البيت (ع) يقول في إحدى قصائده في مدح رسول الله (ص) وقد قرّض بها تخميس قصيدة الشاعر محمد رضا النحوي لبردة البوصيري:
ومن لرسول الله كان مديحه فآثاره محمودة وعواقبه
ويعجز عمن قد أتاه مفاخراً به وليغالب من أتاه يغالبه
ويحمد إله العرش جلّ فإنها مواهب من ذي العز جلّت مواهبه
يقول السماوي في (الطليعة) عن شاعرنا: (كان فاضلاً فقيهاً شاعراً وتقياً زاهداً ناسكاً وله شعر الى أدب ومعرفة باللغة) ويجد القارئ تجسيد هذه الكلمات في ديوانه الذي فاق على الأربعة آلاف بيت أغلبه في مدائح ومراثي أهل البيت (ع) وخاصة في مراثي الإمام الحسين (ع) يقول في إحدى حسينياته:
نحر له الهادي النبي مقبل أضحت تقبّله شفاه شفارِ
صدر يرضرض بالخيول وأنه كنز العلوم وعيبة الأسرارِ
يا جد هل خُبرت أن حماتنا قد أصبحوا خبراً من الأخبارِ
ثم يندب الإمام المنتظر (عج) للأخذ بالثأر وانقاذ المؤمنين مما أحيق بهم من الآلام:
يا مدرك الاوتار أدركنا فقد عظم البلا يا مدرك الأوتارِ
فإليك يا غوث العباد المشتكى مما ألمّ بنا من الأشرارِ
والمؤمنون على شفا جرف الردى فبدارِ يا ابن الأكرمين بدارِ
وفي حسينية أخرى يقول:
لهفي لتلك الرؤوس يرفعها على رؤوس الرماح أوضعُها
لهفي لتلك الجسوم عارية وذاريات الصبا تلفّعها
لهفي لتلك الصدور توطئ بالخيل ومنها العلوم أجمعها
لهفي لتلك الأسود قد ظفرت بها كلاب الشقا وأضبعها
لهفي لتلك الأوصال تنهبها السمر وبيض الظبا تقطّعها
وفي قصيدة يصف أهل زمانه وما ساد فيهم من الجشع والأنانية يقول:
لو أنهم شاهدوا فرعون أو شهدوا زمانه ما أغتدوا إلا فراعينا
يفنى الزمان وتبلى فيه أنفسان وليس نحظى بشيء من أمانينا
واحرّ قلباه قد كادت فيض جوى من النفوس وتدنو من تراقينا
وإن أيامنا إسودت بأعيننا مما نقاسيه فضلاً عن ليالينا
يا نفسُ لا تجزعي مما نكابده في دهرنا وتأسي في موالينا
وقد فجع شاعرنا بفقد أخيه السيد أحمد العطار فرثاه بقصيدة تقطر أسى وألماً:
ما للنوائب لا تزال سهامها أبداً الى مهج الكرام تسددُ
هنّ الليالي لا تزال بنقض ما قد أبرمته ذوو المعالي تجهدُ
لا كان في الأيام يوم مصابه ما يومه إلا العبوس الأنكدُ
قد كان شمل الإنس منتظماً به فمضى فعقد نظامه متبددُ
أودى فأية مهجة من بعده تهوى الحياة وأي عين ترقدُ
|
|